داود النبى وابنه سليمان الحكيم ( الجزء الثانى )

داود يخطئ
========

حتى الآن رأينا رجلاً يصعد من لا شيء ليكون ملكاً عظيماً - من وراء الغنم إلى قصر الملك - إلى الانتصار، إلى المُلك في حبرون على سبط يهوذا، وأخيراً إلى المُلك في أورشليم على كل بني إسرائيل. ولقد أعطاه الله ملكاً عظيماً.

كانت حياة داود حتى دراستنا الحالية نصرة تتلوها نصرة وكانت كل صفحة من حياته أكثر لمعاناً من الصفحة التي قبلها. كان يتقدم من مجد إلى مجد. ولكن داود سقط: ومنذ سقوطه بدأ في الهبوط، وكان كل يوم يحمل إليه خبراً سيئاً يحزن القلب. صحيح أنه لم يهلك، ولكنه انحدر ونزل في نظر نفسه، وفي نظر عائلته، وفي نظر شعبه. ونحن نسأل: هل تستحق الخطية كل الثمن المدفوع فيها؟ كان داود مثل البلبل الذي ارتفع في جو الصداقة مع الله، يرنم في السماء بفرح وابتهاج، وفجأة سقط على الأرض مكسور الجناح يصرخ طالباً رحمة الله.

يجب أن نحترس:
------------------
لا يجب أن نلوم داود لأننا في أشياء كثيرة نعثر جميعنا. في كل واحد منا شيء يقرِّبه إلى الله، وشيء آخر يشدُّه إلى الشر. فلنقف في حذر لئلا ندخل في تجربة، فإن رسول المسيحية بولس يحذرنا قائلاً: »مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ قَائِمٌ فَلْيَنْظُرْ أَنْ لَا يَسْقُطَ« (1كورنثوس 10:12). لذلك لنكن ساهرين صاحين، لأن الشيطان كأسد زائر يريد أن يبتلعنا. لا نظن أن فترة الشباب وحدها هي مرحلة الخطية، فإن داود جاز مرحلة الشباب في انتصار، ولكنه سقط في الخطية وهو كبير العمر. وليس على الخطية كبير، ففي اللحظة التي نبتعد فيها عن الله نهوي إلى الشر. ولكن لتكن لنا ثقة بالله، فلا نفشل إن سقطنا، لأننا بقوة الله محروسون بإيمان لخلاص مستعد أن يُعلن في الزمان الأخير (1بطرس 1:5). وإن سقطنا يجب أن نجري بسرعة إلى الرب ونطلب منه الغفران، عالمين وعد السيد المسيح المبارك: »وَأَنَا أُعْطِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً، وَلَنْ تَهْلِكَ إِلَى الْأَبَدِ، وَلَا يَخْطَفُهَا أَحَدٌ مِنْ يَدِي. أَبِي الَّذِي أَعْطَانِي إِيَّاهَا هُوَ أَعْظَمُ مِنَ الْكُلِّ، وَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْطَفَ مِنْ يَدِ أَبِي. أَنَا وَالْآبُ وَاحِدٌ« (يوحنا 10:28-30).

غلطة داود:
------------
كان بنو إسرائيل يحاربون بينما كان داود مستريحاً في قصره في أورشليم. وفي كسله وراحته زاره فكرٌ شرير، ورحَّب داود به، وانتزع امرأةً زوجة رجل. وكان داود قد سبق أن شجع هذا الضيف الشرير أن يزوره، فقد سبق أن تزوج سيدتين وهو في البرية، ثم تزوج خمس سيدات وهو في حبرون، ثم تزوج بعدد آخر وهو في أورشليم، وأضاف إلى كل زوجاته ست عشرة سُريّة. وعندما جاء الضيف الشرير إلى داود مرة أخرى أخطأ داود وأخذ نعجة الرجل الفقير. ويظهر أن النجاح الذي عاش فيه جعله ينسى الحذر، فلم ينتبه وسقط.

ولكن شكراً لله أنه لم يترك داود في خطيته، إذ أرسل إليه ناثان النبي لينبِّهه. واستيقظ داود ليبكي على خطيته، وكتب المزمور الحادي والخمسين اعترافاً.

وينقسم هذا المزمور إلى ثلاثة أقسام: طلب داود الغفران، ثم طلب التطهير، ثم طلب أن يعيده الله إلى خدمته.

اعتراف داود:
-------------------
اعترف داود بالخطية التي ارتكبها، واستعمل كلمات مختلفة في وصفها. قال أنه ارتكب »معصية«. والمعصية هي الثورة ضد الله.

وقال إنه عمل »إثماً« والإثم هو العَوَج. والذي يرتكب الإثم يحب الطريق الأعوج.

وقال إنه ارتكب »الخطيئة« والخطيئة هي عدم إصابة الهدف. لم يصب داود هدف وجوده في الحياة وأخطأ. وقال إنه عمل الشر، والشر هو عبور الخط الذي رسمه الله لنا، فقد وضع الله لنا حدوداً، والشرير هو الذي يعبر الخط إلى عالم الممنوع.

وفي طلب الغفران طلب داود أن »يمحو« الله معاصيه، كأن الخطيئة مكتوبة في كتاب، وداود يطلب من الله أن يمحوها.

وقال لله: »اغْسِلْنِي كَثِيراً مِنْ إِثْمِي«. والغسل هنا هو بالخبط على حجر ليخرج الطين من الملابس القذرة، وكأن داود يطلب من الله أن يخبطه حتى يُخرج منه قذر الخطية. ثم يقول داود: »وَمِنْ خَطِيَّتِي طَهِّرْنِي«. ثم يقول: »طَهِّرْنِي بِالّزُوفَا فَأَطْهُرَ«. والتطهير بالزوفا هو استخدام الأعشاب التي كان بنو إسرائيل يغمسونها في الدم ليغطوا باب بيوتهم أثناء عيد الفصح، تذكاراً لوجود الدم على العتبة العليا وعلى قائمتي الباب، حتى لا يهلكهم الملاك المهلك. ومن يطهرنا إلا السيد المسيح؟

ثم يقول داود للرب: »اسْتُرْ وَجْهَكَ عَنْ خَطَايَايَ«. وهذه فكرة الكفارة - وضع غطاء على الخطيئة حتى لا يراها الله. ودم المسيح هو الغطاء الذي يغطي الخاطئ ويستره.

داود يطلب التطهير:
-----------------------
بعد أن طلب الغفران طلب التطهير. الغفران هو أن الله يسامحنا على ماضينا، والتطهير هو أن يعطينا الله القلب النقي الذي لا يحب الخطيئة. ونحن نحتاج بعد الولادة الجديدة إلى التطهير. تحتاج أيها التاجر إلى الاستقامة في تجارتك، كما تحتاجها أيها العامل وأنت تقوم بعملك. تحتاجها أيها التلميذ وأنت تجوز امتحاناتك، إذ يغسل الله قلوبنا من الشر حتى لا نحب الشر، وتتغير ميولنا من جهة الخطية.

تعال بنا نرى كيف طلب داود التطهير من الله، لنطلب نحن أيضاً منه أن يطهرنا.

طلب داود من الله قلباً نقياً: »قَلْباً نَقِيّاً اخْلُقْ فِيَّ يَا اَللّهُ«. والقلب النقي هو القلب النظيف الذي غسله السيد المسيح ويعطيه الله للإنسان كما يقول الإنجيل المقدس: »إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي الْمَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ. الْأَشْيَاءُ الْعَتِيقَةُ قَدْ مَضَتْ. هُوَذَا الْكُلُّ قَدْ صَارَ جَدِيداً« (2كورنثوس 5:17). فلنطلب من الله أن يعطينا القلب النقي.

ثم طلب من الله أن يعطيه روحاً مستقيماً، قال: »وَرُوحاً مُسْتَقِيماً جَدِّدْ فِي دَاخِلِي«. هذه الروح عكس الروح الذي نجده في الآثام، فإن الروح المستقيم عكس الروح الملتوي. عندما خلقنا الله كانت لنا استقامة، لكن الخطية عوّجتها، ونحن نطلب من الله أن يجدّد استقامتنا التي ضاعت منا.

ثم يقول داود للرب: »تُعَرِّفُنِي حِكْمَةً« والمقصود بالحكمة ليس المعرفة العقلية فقط، لكن حكمة التطبيق والتصرف. ورأس الحكمة مخافة الله. نحتاج إلى الحكمة في التصرف والتفكير، لنعرف كيف نواجه التجارب التي تهاجمنا. ويقول لنا الإنجيل إن كل من تعوزه حكمة فليطلب من الله الذي يعطي بسخاء. فلنطلب من الله أن يعطينا الحكمة التي بها نتصرف ونحن نواجه الشهوة.

ومضى داود يصلي لله: »لَا تَطْرَحْنِي مِنْ قُدَّامِ وَجْهِكَ« نحتاج دوماً إلى الإحساس الدائم أن الله قريب منا حتى نعيش في القداسة والطهارة. قال رسول المسيحية بولس: »الربُّ قريب« (فيلبي 4:5). بمعنى أنه عن يميننا فلا نتزعزع. إن الابتعاد عن الله هو سبب كل البلايا، لكن الشعور أن الله معنا ينصرنا على خطيتنا. صحيح أن الخطية تبعدنا عن الله، لكن وجه الله الذي يسير معنا يبعدنا عن الخطيئة.

وقال داود لله: »وَرُوحَكَ الْقُدُّوسَ لَا تَنْزِعْهُ مِنِّي«. الخطيئة في القلب تحزن روح الله، وداود يصلي أن لا ينزع الله روحه منه، بل أن يبقى عمل الروح القدس فيه، لأنه نادم على خطيئته ولأنه يريد أن تتطهر حياته.

ثم قال داود للرب: »رُدَّ لِي بَهْجَةَ خَلَاصِكَ«. الخطيئة تسلب الفرح، وتضيِّع بهجة الأُنس مع الله. لكن الذي يتوب إلى الله ترجع إليه بهجة الخلاص.

ثم قال داود للرب: »بِرُوحٍ مُنْتَدِبَةٍ اعْضُدْنِي«. والروح المنتدبة هي الروح التي تعطي بسخاء. كان داود مثل اللص الذي أخذ ما لجاره الفقير، لكنه يصلي أن يعطيه الرب روحاً سخية تجعله يتعب عاملاً الصالح ليعطي من له احتياج.

داود يطلب فرصة للخدمة:
---------------------------
بعد أن طلب داود من الله الغفران والتطهير، عاد يطلب من الله أن يعطيه فرصة الخدمة.

قال لله: »أُعَلِّم الْأَثَمَةَ طُرُقَكَ« لقد سقط داود وتعب وعمل الإثم، ورأى نتيجته المُرّة، ولذلك فهو يريد أن يحذِّر الأثمة من طريقهم الشرير، ويهديهم إلى طريق الرب، لأن من ردّ خاطئاً عن ضلال طريقه، ينقذ نفس الخاطئ من الموت ويستر كثرة من الخطايا التي كان الخاطئ التائب سيرتكبها لو لم يتُب (يعقوب 5:20).

ثم يقول داود: »يُخْبِر فَمِي بِتَسْبِيحِكَ«. كان داود قد نظم مدرسة الأنبياء وأدخل فيها تعليم الترتيل والموسيقى، وهو يريد أن تستمر خدمة الترنيم والتسبيح.

ثم قال داود لله إنه يريد أن يبني أسوار مدينة الله. الخطيئة تهدم السور الذي يحمي النفس. وإن كان الشعب قد رأى داود يخطئ، فإن الخطيئة تهون أمامهم، لأن الناس على دين ملوكهم، ويريد داود أن يضيّع تأثير خطئه، فطلب من الله أن يعطيه فرصة الخدمة وبناء سور مدينة الله.

يا ليتنا نعترف إلى الله بعد أن نخطئ، لنجد من الله مغفرة لخطايانا. لا تترك الخطية دون أن تعترف بها، فالمرنم يقول: »قُلْتُ: أَعْتَرِفُ لِلرَّبِّ بِذَنْبِي وَأَنْتَ رَفَعْتَ أَثَامَ خَطِيَّتِي« (مزمور 32:5).

-------------------------------------------------------------

أبشالوم يثور على أبيه
=============

رأينا كيف أخطأ داود إلى الله. وقد بدأ يحصد أجرة الخطيئة التي وقع فيها. بدأ الفساد ينخر بيته ثم مملكته، فقد ثار أبشالوم ابنه ضده، وجمع جيشاً كبيراً، وكاد يحدث انقلاباً في المملكة ضد أبيه، فهرب داود من عاصمة مُلكه، ودخلها أبشالوم بعده. وذهب داود إلى الصحراء حزيناً مكسور القلب. ولولا أن الرب تدخل وأنقذه، لكان ضاع، ولكن الله لم ينزع رحمته عنه ولا عن بيته، فأنقذه في اللحظة الأخيرة.

سبب ثورة أبشالوم:
---------------------
ترى لماذا فكر أبشالوم بن داود أن يثور على أبيه؟ هناك عدة أسباب يمكن أن نجدها في الثورة.

السبب الأول أن داود كان يفرّق في معاملة أولاده. كان أبشالوم يتضايق من أبيه لأنه كان يحب سليمان أكثر مما يحبه، وكان يريد أن يُملّكِ سليمان مكانه. ورأى أبشالوم أنه الوارث الأول للمُلك. كان أخواه الكبيران قد ماتا، وبقي أبشالوم أكبر الأبناء الأحياء، فله الفرصة أن يملك مكان أبيه. رأى أبشالوم أيضاً أنه الوحيد الذي يجيء من أصل ملكي، فإن أمه معكة كانت ابنة ملك جشور، أما بقية إخوته، بمن فيهم سليمان، فإنهم أبناء سيدات عاديات. وهكذا رأى أبشالوم أنه الوارث الوحيد للعرش، وأنه وحده الذي يستحقه، فكيف يحاول أبوه داود أن يجعل من سليمان ملكاً؟

إن أكثر ما يُخرب البيوت هو التفريق في معاملة الأبناء. فرّق يعقوب أبو الأسباط في معاملة أولاده، وأعطى يوسف الابن الأصغر القميص الملون، وفضله على بقية إخوته، فكانت النتيجة أن باعه إخوته لأنهم كرهوه. وكل أب يجب أن يحترس من إظهار المحبة لأحد أولاده أكثر من الباقين. إذ يجب أن عامِل كل أولادك معاملة متساوية وحقِّق لهم تكافؤ الفرص.

وهناك سبب آخر هو عدم إيمان أبشالوم. لم يكن أبشالوم قريباً من الله. لقد عرف من ناثان النبي أن سليمان أخاه سيرث كرسي داود أبيه، ولكن كلام ناثان النبي لم يعجبه، فأراد أن يقوم بالثورة ليأخذ العرش. كان هذا نفس ما عمله الملك السابق شاول، إذ أراد أن يقتل داود حتى لا يأخذ المملكة منه، بينما كان يعلم تماماً أن الله وعد داود أن يكون ملكاً على بني إسرائيل. غير أن الله حقق وعده لداود رغم كل مقاومة شاول. وأبشالوم يفعل الشيء نفسه مع أبيه ومع سليمان أخيه.

ومع أننا لا نعفي أبشالوم من مسئولية عدم إيمانه، إلا أننا نلوم داود الذي لم يهتم بأولاده كما يجب. صحيح أنه عندما نقل تابوت الرب إلى أورشليم اهتم بأهل بيته في العبادة، لكن أولاده كانوا يحتاجون إلى رعاية روحية أكثر من الرعاية التي قدمها لهم. لكن كيف يستطيع داود أن يعطي أولاده رعاية روحية وهو متزوج بنساء كثيرات وله أولاد كثيرون؟

أيها الآباء أولادكم عطية من الله في أيديكم، فعلِّموهم كلمة الله واهتموا بتنشئتهم في مخافته.

وهناك سبب ثالث جعل أبشالوم يقوم بانقلابه. كان أبشالوم جميل المنظر. تقول التوراة عنه إنه لم يكن مثله في كل الشعب في جماله. من رأسه إلى قدميه لم يكن فيه عيب. كان شعره الطويل الذهبي غزيراً يحلقه كل سنة، فأحب الناس جمال منظر أبشالوم، والناس دوماً ينظرون إلى المظاهر. وكان أبشالوم ذكياً، فكان يجلس مبكراً على جانب الطريق حيث يجلس الملك وقضاة الشعب. ويبدو أن الملك داود كان يتأخر عن الحضور إلى مجلس القضاء، فكان أبشالوم يقابل أصحاب الشكاوى ويقول لهم كلاماً صالحاً، ويشكو من نقص الإنصاف في المملكة، ثم يقول: »مَنْ يَجْعَلُنِي قَاضِياً فِي الْأَرْضِ فَيَأْتِيَ إِلَيَّ كُلُّ إِنْسَانٍ لَهُ خُصُومَةٌ وَدَعْوَى فَأُنْصِفَهُ؟« (2صموئيل 15:4). ولم يكن يقبل أن يسجد له أحد، بل كان يمسك الناس ويقبِّلهم، فأحب الناس أبشالوم وأعجبتهم وعوده الجميلة. وعندما سمع الناس صوت البوق يدعو: قد ملك أبشالوم، أطلقوا أصواتهم يؤيدون ذلك الدعاء.

وكان هناك سبب رابع. كان أبشالوم شاباً صاعداً في الحياة، وكان داود يكبر وينزل في طريق الشيخوخة. كان أبشالوم يحيط نفسه بخمسين رجلاً يجرون أمامه، وأغلب الظن أن داود كان مريضاً منطوياً في قصره. ويقول بعض المفسرين إن داود كتب المزمور الحادي والأربعين وهو مريض في تلك الأيام، وفيه يقول: »الرَّبُّ يَعْضُدُهُ وَهُوَ عَلَى فِرَاشِ الضُّعْفِ. مَهَّدْتَ مَضْجَعَهُ كُلَّهُ فِي مَرَضِهِ. أَنَا قُلْتُ: يَا رَبُّ ارْحَمْنِي. اشْفِ نَفْسِي لِأَنِّي قَدْ أَخْطَأْتُ إِلَيْكَ« (مزمور 41:3 و4). وكان الشعب قد عرف قصة سقوط داود في خطيئته، ولكنهم رأوه يجمع المواد اللازمة لبناء الهيكل. ولعل الشعب تساءل: »كيف يقتل هذا الرجل ويزني، وفي الوقت نفسه يعمل على بناء بيت الرب؟«.

لا بد أنهم لم يعرفوا أن داود قد تاب، لذلك أسرع كثيرون وراء ا لملك الجديد أبشالوم.

كيف قام أبشالوم بثورته:
----------------------------
حاول أبشالوم أن يسرق قلوب الشعب، فجعل يتظاهر أمامهم أنه لا يوجد عدل في المملكة، وأنه لو تولّاها وأصبح هو الملك لأجرى العدل والقضاء لجميع المظلومين، فأحبه الشعب وجعلوا يتطلعون إلى اليوم الذي يعتلي فيه العرش.

بعد أن اطمأن أبشالوم إلى أن الشعب أحبه وتعلق به قال لأبيه إنه نذر للرب نذراً في حبرون، وطلب الإذن أن يذهب ليقدم تقدمات للرب، فسمح داود له، وهو لا يعلم أن ابنه قد دبّر انقلاباً ضده. وأرسل أبشالوم جواسيس في كل البلاد لينادوا في وقت واحد أنه قد ملك، حتى إذا سمع الناس صوت البوق يخرجون وراءه. وأخذ أبشالوم معه مئتي رجل من عظماء المملكة، لا يعرفون فكرة الثورة ضد داود. وقد أراد أبشالوم أن يكون هؤلاء الرجال مشيرين له. وعندما سمع داود بخبر الثورة وعرف أن كثيرين تبعوا أبشالوم هرب من أورشليم هو والمخلصون له. ولكنه رفض أن يأخذ معه تابوت الرب المقدس، وطلب من الكاهن أن يُرجع التابوت إلى مكانه. كان داود يعلم أن إله العهد معه، فإذا قبل توبته أرجعه إلى أورشليم بسلام ليعبده هناك. مع أن داود أخطأ، إلا أنه كان يدرك أن الرب راعيه. لقد قال هو: »اَلرَّبُّ رَاعِيَّ فَلَا يُعْوِزُنِي شَيْءٌ. فِي مَرَاعٍ خُضْرٍ يُرْبِضُنِي. إِلَى مِيَاهِ الرَّاحَةِ يُورِدُنِي. يَرُدُّ نَفْسِي. يَهْدِينِي إِلَى سُبُلِ الْبِرِّ مِنْ أَجْلِ اسْمِهِ« (مزمور 23:1-3). كان داود يعلم أنه حتى لو كان أخطأ فإن الله لا بد أن يردّ نفسه إلى سبل البر، سواء كان تابوت العهد معه أو لم يكن، فإن الله الحيّ الدائم الوجود معه يؤازه.

هرب داود من أورشليم ومعه أصدقاؤه المخلصون له، وطلب من مشيره وصديقه حوشاي أن يذهب إلى أبشالوم ليتكلم ضد مشورة رجل اسمه أخيتوفل الجيلوني، كان قد تبع أبشالوم. كان داود حزيناً لأن أخيتوفل الذي انضم إلى أبشالوم كان صديقاً له، ومع ذلك فقد خانه. وفي هذا كتب داود مزموره الخامس والخمسين وقال فيه: »فَرِّقْ أَلْسِنَتَهُمْ، لِأَنِّي قَدْ رَأَيْتُ ظُلْماً وَخِصَاماً فِي الْمَدِينَةِ... لِأَنَّهُ لَيْسَ عَدُوٌّ يُعَيِّرُنِي فَأَحْتَمِلَ. لَيْسَ مُبْغِضِي تَعَظَّمَ عَلَيَّ فَأَخْتَبِئَ مِنْهُ. بَلْ أَنْتَ إِنْسَانٌ عَدِيلِي، إِلْفِي وَصَدِيقِي، الَّذِي مَعَهُ كَانَتْ تَحْلُو لَنَا الْعِشْرَةُ. إِلَى بَيْتِ اللّهِ كُنَّا نَذْهَبُ فِي الْجُمْهُورِ« (مزمور 55:9-14).

نهاية الثورة:
------------------
وسار أبشالوم وأصحابه من حبرون إلى أورشليم، وهناك أشار أخيتوفل أن يهاجم أبشالوم دواد أباه مباشرة. ولكن حوشاي أشار مشورة ضد مشورة أخيتوفل. قال أن يتأخر أبشالوم حتى يجمع رجالاً من كل أسباط إسرائيل، ثم يسير معهم ليحارب أباه. وأُعجب أبشالوم بمشورة حوشاي، مع أن مشورة أخيتوفل كانت أفضل لأن الله لم يُرد لثورة أبشالوم أن تنجح. وأسرع حوشاي يخبر داود عن عزم أبشالوم على الهجوم على أبيه بعد أن يدعو كل أسباط إسرائيل. وكان الوقت الذي قضاه أبشالوم في جمع أسباط بني إسرائيل يكفي لأن يعبر داود نهر الأردن ويهرب إلى محنايم، ويستعد مع الرجال الذين معه للموقعة. وأقام أبشالوم قائداً على جيشه ونزل إلى محنايم. وقسم داود جيشه إلى ثلاثة أقسام، وحارب جيشُ داود جيشَ أبشالوم ابنه، وانتصر. في ذلك اليوم مات من جيش أبشالوم عشرون ألفاً، وكان عدد الذين ماتوا بين أشجار الغابة أكثر من الذين ماتوا بالسيف. وكان من ضمن القتلى أبشالوم نفسه. كان راكباً على بغل، دخل تحت أغصان شجرة بطم، فتعلّبق رأس أبشالوم في غصن، ومرّ البغل وبقي أبشالوم معلقاً من شعره الغزير في فرع تلك الشجرة. وعرف يوآب قائد جيش داود بمكان أبشالوم، فأخذ ثلاثة سهام ضربها في قلب أبشالوم وهو حي، فقتله، ودفنوه في حفرة كبيرة بالقرب من المكان الذي مات فيه، وأقاموا عليه كومة كبيرة من الحجارة، حسب عادة اليهود في تحقير المجرمين.

داود يبكي ولده:
-------------------
وعندما عرف داود أن أبشالوم مات جعل يبكي بكاء مراً. وجلس الشعب حائراً حزيناً ليس لهم ملك. داود هرب من الأرض أمام أبشالوم ومات أبشالوم مقتولاً، والملك ليس في عاصمته. عرف داود أن أهله الذين هم سبط يهوذا لن يتحركوا ليدعوه ليعود إلى عاصمته لأنهم كانوا في خجل شديد بسبب مؤازرتهم للانقلاب، فأرسل إليهم كاهنين يقولان لهم إنه غفر لهم، وينتظر منهم أن يُرجعوه إلى عرشه. ثم أرسل لعماسا قائد جيش أبشالوم ووعده أن يجعله رئيس جيشه، وقصد داود بذلك أن يُرضي رجال يهوذا، كما قصد أن يُرضي الذين آزروا ابنه. وقبل رجال يهوذا كلام الملك وأرسلوا إليه يقولون: »ارجع أنت وعبيدك«. فرجع الملك داود ليملك، ولاقاه الشعب عند نهر الأردن. وجاء إليه كثيرون يوضحون له محبتهم ويهنئونه بسلامة الرجوع. لقد كان ذلك اختباراً مراً جاز فيه داود، لكن الله أنقذه. صحيح أن داود خسر ولده لكنه تعلم درساً من جديد في محبة الله له.

-------------------------------------------------------------

نشيد الخلاص
============

مات داود ودُفن في أورشليم وله من العمر سبعون سنة. وكان قد ملك أربعين سنة: سبع سنين في حبرون، وثلاثاً وثلاثين سنة في أورشليم. رقد ملك عظيم ومرنم عظيم وإنسان عظيم. رقد صاحب المزامير الذي كان حسب قلب الله، وأيُّ إنسان يحيا ولا يرى الموت؟

في ختام حياة داود ردد مزموراً جميلاً، سجل فيه شعوره من نحو الإله المحب المنقذ. نجده في الأصحاح الثاني والعشرين من سفر صموئيل الثاني، كما نجده مع تغيير بسيط في المزمور الثامن عشر. والأغلب أن داود كتب مزموره ليستعمله كل الشعب في العبادة الجمهورية. في مقدمة المزمور يتكلم عن علاقته بالرب، ثم يصف الضيقات التي جاز فيها، وكيف خلَّصه الرب منها. وأخيراً يشرح الطريقة التي أنقذه الرب بها. ثم يلخص عمل الرب معه ويرفع شكره لله منتظراً مجيء المسيح من نسله.

علاقة داود بالرب:
-----------------------
يتحدث داود في الأعداد الأربعة الأولى من مزموره الثامن عشر عن علاقته بالله فيقول: »الرَّبُّ صَخْرَتِي وَحِصْنِي وَمُنْقِذِي. إِلهِي صَخْرَتِي بِهِ أَحْتَمِي. تُرْسِي وَقَرْنُ خَلَاصِي وَمَلْجَإِي« (مزمور 18:2). وفي هذه الآيات نرى داود في ضعفه وهجوم الأعداء عليه، لكنه يرى الله في قوته ينقذ ويخلّص وينجي. يقول عن الله إنه الصخر، فيه الحماية، ويقول إنه الترس الذي يحفظ ويحمي من سهام العدو، ويقول إنه الملجأ والمناص، أي النصيب. يدعو الله في كل حين فيخلصه.

ليس لنا إلا الضعف والخطأ نلجأ بهما إلى الله، وعنده نجد الخلاص، بمعنى الشفاء والإنقاذ. أسرِع إلى الرب في كل ضيقة، وسينقذك كما أنقذ داود.

خلاص داود بالرب:
-------------------------
ويمضي داود في مزموره فيتكلم عن الضيقات والخلاص. يقول إن الضيق مثل الأمواج التي تُغرق، والسيول التي تجرف. كان الضيق الذي جاء عليه من الحيل والغش مثل حبال الهاوية ومثل القبر. هذه الأخطار اكتنفت داود، وأحاطت به وأفزعته. وفي وسط هذه كلها صرخ إلى الله.

ويشرح داود خلاص الله الذي جاء إليه بطريقة غريبة مدهشة، ويستعمل تعبيرات بشرية تشرح ما عمل الله معه. إنه يصور الله في صورة جبار عظيم، أقبل إلى معونته بعد أن نزل من سمائه. يقول إن الله جاء لخلاصه في نار ورعودٍ وبرق. وعند مجيء الله إليه ارتعدت الجبال التي هي أسس السماوات، وطأطأ الله السماوات حين نزل لينقذ عبده وليظهر قوته للعالم، والضباب تحت رجليه، بمعنى أن طرقه لا يمكن أن يفهمها البشر، كأن كلام الله نار وكأنه جمر. يقول داود إن الله ركب على كروب، والكروب يرمز إلى الملاك الذي يخدم الله، وكأن الله وملائكته جاءوا ينجدون داود. ما أكرم رحمة الله لأولاده. إن الله يعمل المعجزات.

هل أنت في ضيق حتى كأن حبال الهلاك تسحبك؟ هل أحاطت بك المكائد؟ هل تضايقك الأهوال؟ توجّه إلى الله واطلب وجهه تجد الإنقاذ والنجاة.

ثم يتقدم داود ليشرح الطريقة التي أنقذه الرب بها. إنه يصف نفسه بالطهارة والكمال والبر. ونحن نعلم أن صلاح المؤمن وبرَّه ليسا منه، لكنهما من الله. لنا البر الذي من الله بالإيمان، وهو الذي يبرر الخاطئ. ليس عند داود بر ولا طهارة ولا كمال من نفسه، ولكن الله هو الذي برره من بعد شره، وهو الذي نقل عنه خطيته وستر إثمه وطهره، فابيضّ أكثر من الثلج.

هل أخذت من الله غفران خطاياك؟ أسرع وصلِّ إليه قائلاً: »اللهم ارحمني أنا الخاطئ«. قبل الله داود، لأن الله رحيم. وظل يعامله بهذه الرحمة الإلهية. ويقول داود إن الله سراجه، وإنه ينير ظلمته، وظلمة الخوف من الأعداء وظلمة الضيق من المضايقين.

صورة الرب في نظر داود:
------------------------------
أمانة الله. يقول: »قَوْلُ الرَّبِّ نَقِيٌّ. تُرْسٌ هُوَ لِجَمِيعِ الْمُحْتَمِينَ بِهِ« (2صموئيل 22:31) وهذا كلام رائع لأن وعد الله صادق وكل من يستند عليه ويحتمي به ينال عونه وبركته.

ثم يتحدث عن محبة الله فيقول: »الْإِلهُ الَّذِي يُعَزِّزُنِي بِالْقُوَّةِ« (2 صموئيل 22:33). يعزّز أولاده ويعطيهم القوة الداخلية التي تمكّنهم من الصمود أمام العدو.

أما الصفة الثالثة فهي دوام الله. يقول: »حي هو الرب«. الله حي عامل فينا ومعنا. وهو حي دائم الوجود، لا تغيير فيه.

وفي الآيتين الأخيرتين يقدم داود شكراً ويعبر عن الانتصار. يرفع الشكر القلبي وينتظر الخلاص الكامل في المسيح الآتي.

تُرى هل نذكر الله بعد نجاتنا ونشكره؟ ما أكثر الذين يأخذون من الله، ولكنهم يمضون وينسون. على أن داود جاء يشكر. ونحن اليوم نتمتع بالخلاص الكامل في المسيح وننتظر مجيئه ثانيةً من السماء.

أيها القارئ الكريم، كن مع الله لتكون حياتك ترنيمة فرح دائم. وكما كان داود صاحب المزامير يمكن أن تكون أنت مؤمناً فرحاناً دائماً، لأن الله يحبك، ولأنك تسلك معه.

-------------------------------------------------------------

سليمان الحكيم
=========

سليمان يملك
---------------
سليمان إمام الحكماء هو ملك بني إسرائيل، الذي خلف أباه الملك داود على العرش، وملك أربعين سنة. وكان أعظم ملك. ومع أن الملك سليمان عاش منذ ثلاثة آلاف سنة. إلا أن اسمه لا زال مشهوراً في العالم كله، بحكمته وبعظمة مملكته. ولقد وصلتنا تقاليد كثيرة من الأيام القديمة تروي عظمة قوة سليمان وإنجازاته وروعة حكمته، وربما كانت بعض هذه الاخبار صحيحة. على أن الكتاب المقدس يحتوي القصة الصحيحة عن حياة سليمان وعن مُلكه.

وفي كتابنا هذا سنعتمد على الكتاب المقدس كالمرجع الوحيد لحياة سليمان، هذا الملك العظيم.

كان سليمان أصغر أبناء الملك داود من زوجته بثشبع. وُلد في أورشليم عاصمة ممكلة داود حوالي سنة 970 قبل ميلاد السيد المسيح. وكان الله قد قال للملك داود إن ابنه هذا سوف يصبح خليفته على العرش وقال له: »يُولَدُ لَكَ ابْنٌ يَكُونُ صَاحِبَ رَاحَةٍ، وَأُرِيحُهُ مِنْ جَمِيعِ أَعْدَائِهِ حَوَالَيْهِ، لِأَنَّ اسْمَهُ يَكُونُ سُلَيْمَانَ. فَأَجْعَلُ سَلَاماً وَسَكِينَةً فِي إِسْرَائِيلَ فِي أَيَّامِهِ. هُوَ يَبْنِي بَيْتاً لاِسْمِي، وَهُوَ يَكُونُ لِيَ ابْناً، وَأَنَا لَهُ أَباً وَأُثَبِّتُ كُرْسِيَّ مُلْكِهِ عَلَى إِسْرَائِيلَ إِلَى الْأَبَدِ« (1أخبار 22:9 و10).

وسليمان اسم عبري معناه »رجل سلام«. ولقد أطلق الله على سليمان اسماً آخر - سمّاه »يديديا« أي محبوب الرب (2صموئيل 12:24، 25).

داود يختار سليمان خليفة له:
-------------------------------
عندما بلغ داود السبعين من عمره أراد ابنه الأكبر أدونيا أن يأخذ المملكة من أبيه، وأن يجلس على عرشه. ولكن بثشبع أم سليمان أسرعت إلى داود تقول: »أَنْتَ يَا سَيِّدِي حَلَفْتَ بِالرَّبِّ إِلهِكَ لِأَمَتِكَ أَنَّ سُلَيْمَانَ ابْنَكِ يَمْلِكُ بَعْدِي وَهُوَ يَجْلِسُ عَلَى كُرْسِيِّي. وَالْآنَ هُوَذَا أَدُونِيَّا قَدْ مَلَكَ. وَالْآنَ أَنْتَ يَا سَيِّدِي الْمَلِكُ لَا تَعْلَمُ ذلِكَ... وأَعْيُنُ جَمِيعِ إِسْرَائِيلَ نَحْوَكَ لِتُخْبِرَهُمْ مَنْ يَجْلِسُ عَلَى كُرْسِيِّ سَيِّدِي الْمَلِكِ بَعْدَهُ« (1ملوك 1:17-20). وعندما عرف الملك داود من مصادر أخرى أن ابنه أدونيا قد حاول اغتصاب المُلك منه، أصدر أوامره بتجليس سليمان على العرش وقال: »حَيٌّ هُوَ الرَّبُّ الَّذِي فَدَى نَفْسِي مِنْ كُلِّ ضِيقَةٍ إِنَّهُ كَمَا حَلَفْتُ لَكِ بِالرَّبِّ إِلهِ إِسْرَائِيلَ أَنَّ سُلَيْمَانَ ابْنَكِ يَمْلِكُ بَعْدِي وَهُوَ يَجْلِسُ عَلَى كُرْسِيِّي عِوَضاً عَنِّي، كَذلِكَ أَفْعَلُ هذَا الْيَوْمَ« (1ملوك 1:29-30). وأمر الملك داود صادوق الكاهن وناثان النبي وبقية قادة المملكة أن يُركبوا سليمان ابنه على البغلة التي له وينزلوا به إلى جيحون ليمسحه صادوق الكاهن هناك ملكاً. وأمر بأن يُضرب بالبوق وأن يقولوا: »لِيَحْيَ الْمَلِكُ سُلَيْمَانُ« (1ملوك 1:16-39).

ولما تمت هذه المراسيم جاء رجال الملك يهنئون ملكهم داود قائلين: »يَجْعَلُ إِلهُكَ اسْمَ سُلَيْمَانَ أَحْسَنَ مِنِ اسْمِكَ، وَكُرْسِيَّهُ أَعْظَمَ مِنْ كُرْسِيِّكَ. فَسَجَدَ الْمَلِكُ عَلَى سَرِيرِهِ. وَأَيْضاً هكَذَا قَالَ الْمَلِكُ: مُبَارَكٌ الرَّبُّ إِلهُ إِسْرَائِيلَ الَّذِي أَعْطَانِيَ الْيَوْمَ مَنْ يَجْلِسُ عَلَى كُرْسِيِّي وَعَيْنَايَ تُبْصِرَانِ« (1ملوك 1:47، 48).

ولما قربت أيام وفاة الملك داود، جاء بابنه سليمان وأصاه قائلاً: »أَنَا ذَاهِبٌ فِي طَرِيقِ الْأَرْضِ كُلِّهَا. فَتَشَدَّدْ وَكُنْ رَجُلاً. اِحْفَظْ شَعَائِرَ الرَّبِّ إِلهِكَ إِذْ تَسِيرُ فِي طُرُقِهِ وَتَحْفَظُ فَرَائِضَهُ وَصَايَاهُ وَأَحْكَامَهُ وَشَهَادَاتِهِ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي شَرِيعَةِ مُوسَى، لِتُفْلِحَ فِي كُلِّ مَا تَفْعَلُ وَحَيْثُمَا تَوَجَّهْتَ. لِيُقِيمَ الرَّبُّ كَلَامَهُ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ عَنِّي قَائِلاً: إِذَا حَفِظَ بَنُوكَ طَرِيقَهُمْ وَسَلَكُوا أَمَامِي بِالْأَمَانَةِ مِنْ كُلِّ قُلُوبِهِمْ وَكُلِّ أَنْفُسِهِمْ لَا يُعْدَمُ لَكَ رَجُلٌ عَنْ كُرْسِيِّ إِسْرَائِيلَ« (1ملوك 2:1-4).

وطالب الملك داود ابنه سليمان أن يُدير العدل في المملكة، وأن يقتصَّ من المجرمين الذين ثاروا ضده. وكلفه أن يقيم بيتاً للرب، وقال له: »يَا ابْنِي، قَدْ كَانَ فِي قَلْبِي أَنْ أَبْنِيَ بَيْتاً لاِسْمِ الرَّبِّ إِلهِي. فَكَانَ إِلَيَّ كَلَامُ الرَّبِّ: قَدْ سَفَكْتَ دَماً كَثِيراً وَعَمِلْتَ حُرُوباً عَظِيمَةً، فَلَا تَبْنِي بَيْتاً لاِسْمِي لِأَنَّكَ سَفَكْتَ دِمَاءً كَثِيرَةً عَلَى الْأَرْضِ أَمَامِي. هُوَذَا يُولَدُ لَكَ ابْنٌ يَكُونُ صَاحِبَ رَاحَةٍ، وَأُرِيحُهُ مِنْ جَمِيعِ أَعْدَائِهِ حَوَالَيْهِ، لِأَنَّ اسْمَهُ يَكُونُ سُلَيْمَانَ. فَأَجْعَلُ سَلَاماً وَسَكِينَةً فِي إِسْرَائِيلَ فِي أَيَّامِهِ. هُوَ يَبْنِي بَيْتاً لاِسْمِي... يُعْطِيكَ الرَّبُّ فِطْنَةً وَفَهْماً وَيُوصِيكَ بِإِسْرَائِيلَ لِحِفْظِ شَرِيعَةِ الرَّبِّ إِلهِكَ. حِينَئِذٍ تُفْلِحُ... تَشَدَّدْ وَتَشَجَّعْ لَا تَخَفْ وَلَا تَرْتَعِبْ. هَئَنَذَا فِي مَذَلَّتِي هَيَّأْتُ لِبَيْتِ الرَّبِّ ذَهَباً« (1أخبار 22:6-14). وجعل داود يحصر لسليمان كمية الذهب والفضة والنحاس والأخشاب التي جهزها لبناء بيت الرب. وطلب من سليمان أن يقوم بالبناء.

سليمان ينفِّذ وصايا أبيه:
-----------------------
وعندما تولى سليمان المُلك نفذ الوصايا التي أوصاه أبوه بها، فجعل يُرسي قواعد العدل في المملكة، ووقع العقاب على كثيرين من المجرمين الذين لم يكن داود قد وقع العقاب عليهم. ثم أخذ يبني بيتاً للرب، استغرق بناؤه سبع سنوات، على مثال الرسم الذي أعطاه الله لموسى، ولكن بضعف الحجم الذي بنى به موسى خيمة الاجتماع. ورفع الملك داود صلاة من أجل ابنه، قال: »أَعْطِهِ قَلْباً كَامِلاً لِيَحْفَظَ وَصَايَاكَ، شَهَادَاتِكَ وَفَرَائِضَكَ، وَلِيَعْمَلَ الْجَمِيعَ، وَلِيَبْنِيَ الْهَيْكَلَ الَّذِي هَيَّأْتُ لَهُ« (1أخبار 29:19).

وتقول التوراة إن الرب عظم الملك سليمان جداً في أعين جميع بني إسرائيل، وجعل عليه جلالاً ملكياً لم يكن على ملك قبله (1أخبار 29:25).

عندما نسمع الصلاة التي رفعها داود من أجل ابنه سليمان، نشكر الله من أجل كل أب تقي يرفع صلاة من أجل ابنه، ليُلهم الله ابنه حياة التقوى والصلاح. قد يترك الآباء لأولادهم ثروات كبيرة، لكن أجمل ثروة يمكن أن يتركها أب لابنه هي ثروة التقوى.

عزيزي القارئ، اترك لابنك قدوة حسنة بسلوكك اليومي الصالح وصلِّ من اجل ابنك لينشأ صالحاً، فلا بد أن يستجيب الله الصلاة. وإن كان لديك ابن ضال بعيد عن الله، فأرجوك أن تصلي من أجله، لكي يرجع إلى الله ويتوب، فلا بد أن الله يستجيب لك من أجل أولادك، كما استجاب صلاة داود من أجل سليمان، الذي تقول التوراة عنه: »جلس سليمان على كرسي داود أبيه وتثبت ملكه جداً«.

-------------------------------------------------------------

سليمان يختار الحكمة
=============

كان أول ما فعله سليمان بعد توليه الحكم أنه عقد صلحاً مع ملك مصر وتزوج واحدة من بناته، ولقد كان ذلك مصدر أمن لسليمان. وتزوج سليمان بكثيرات بعد ذلك لأغراض دبلوماسية، فبقي بنو إسرائيل أربعين سنة، هي مدة حكم سليمان، في سلام بغير حرب. وأغلب الظن أن فرعون الذي تزوج سليمان بابنته هو »بسيناسيس«، وأغلب الظن أن ابنة فرعون لما تزوجت سليمان دانت بالدين اليهودي، ومما يؤيد ذلك أنه في آخر حياة سليمان، لما بنى مرتفعات لآلهة نسائه الأجنبيات لم يُذكر أنه بنى مرتفعة لآلهة مصر.

سليمان يتعبّد:
-------------------
بعد ما تولى سليمان الحكم، ذهب إلى مدينة جبعون، وهي مدينة لسبط بنيامين تقع على بُعد ثمانية كيلو مترات شمال أورشليم، واسمها اليوم »الجيب«، وموقعها على قمة هضبة، في أسفلها ينبوع ماء، فكانت مكاناً ملائماً لتقديم الذبائح. وكانت خيمة الاجتماع التي أقامها موسى موجودة في جبعون وبها مذبح النحاس، فدُعي المكان: »المرتفعة العظمى«. وهناك أصعد سليمان ألف محرقة على ذلك المذبح (1ملوك 3:1-4).

وتقول لنا التوراة إن مسكن الرب الذي عمله موسى في البرية ومذبح المحرقة كانا في ذلك الوقت في المرتفعة في جبعون، وكانت الذبائح التي قدمها سليمان عظيمة توافق عظمة الملك، وتبين تكريسه للرب في أول مُلكه. وحضر تقديم تلك الذبائح رؤساء جميع بني إسرائيل، فكانت علامة اتحادهم جميعاً في عبادة واحدة للإله الواحد. وبعد أن قدم سليمان تلك الذبائح، ظهر الرب لسليمان في حلم ليلاً وقال له: »اسْأَلْ مَاذَا أُعْطِيكَ«. فَقَالَ سُلَيْمَانُ: »إِنَّكَ قَدْ فَعَلْتَ مَعَ عَبْدِكَ دَاوُدَ أَبِي رَحْمَةً عَظِيمَةً حَسْبَمَا سَارَ أَمَامَكَ بِأَمَانَةٍ وَبِرٍّ وَاسْتِقَامَةِ قَلْبٍ مَعَكَ، فَحَفِظْتَ لَهُ هذِهِ الرَّحْمَةَ الْعَظِيمَةَ وَأَعْطَيْتَهُ ابْناً يَجْلِسُ عَلَى كُرْسِيِّهِ كَهذَا الْيَوْمِ. وَالْآنَ أَيُّهَا الرَّبُّ إِلهِي، أَنْتَ مَلَّكْتَ عَبْدَكَ مَكَانَ دَاوُدَ أَبِي، وَأَنَا فَتىً صَغِيرٌ لَا أَعْلَمُ الْخُرُوجَ وَالدُّخُولَ. وَعَبْدُكَ فِي وَسَطِ شَعْبِكَ الَّذِي اخْتَرْتَهُ شَعْبٌ كَثِيرٌ لَا يُحْصَى وَلَا يُعَدُّ مِنَ الْكَثْرَةِ. فَأَعْطِ عَبْدَكَ قَلْباً فَهِيماً لِأَحْكُمَ عَلَى شَعْبِكَ وَأُمَيِّزَ بَيْنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، لِأَنَّهُ مَنْ يَقْدُِرُ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى شَعْبِكَ الْعَظِيمِ هذَا؟«. وكانت إجابة سليمان هذه سبب رضى الله عليه، فَقَالَ لَهُ اللّهُ: »مِنْ أَجْلِ أَنَّكَ قَدْ سَأَلْتَ هذَا الْأَمْرَ وَلَمْ تَسْأَلْ لِنَفْسِكَ أَيَّاماً كَثِيرَةً وَلَا سَأَلْتَ لِنَفْسِكَ غِنًى وَلَا سَأَلْتَ أَنْفُسَ أَعْدَائِكَ، بَلْ سَأَلْتَ لِنَفْسِكَ تَمْيِيزاً لِتَفْهَمَ الْحُكْمَ، هُوَذَا قَدْ فَعَلْتُ حَسَبَ كَلَامِكَ. هُوَذَا أَعْطَيْتُكَ قَلْباً حَكِيماً وَمُمَيِّزاً حَتَّى إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِثْلُكَ قَبْلَكَ وَلَا يَقُومُ بَعْدَكَ نَظِيرُكَ. وَقَدْ أَعْطَيْتُكَ أَيْضاً مَا لَمْ تَسْأَلْهُ، غِنًى وَكَرَامَةً حَتَّى إِنَّهُ لَا يَكُونُ رَجُلٌ مِثْلَكَ فِي الْمُلُوكِ كُلَّ أَيَّامِكَ. فَإِنْ سَلَكْتَ فِي طَرِيقِي وَحَفِظْتَ فَرَائِضِي وَوَصَايَايَ كَمَا سَلَكَ دَاوُدُ أَبُوكَ فَإِنِّي أُطِيلُ أَيَّامَكَ« (1ملوك 3:5-14).

واستيقظ سليمان وإذا هو حلم. فامتلأت نفسه بالرضى والسرور. لقد سُرَّ سليمان بالحق في الباطن، فطلب عقله الباطن أثناء نومه حكمة، لأنه كان يقدر المسئولية العظمى الموضوعة علىكتفيه. وعندما عاد إلى أورشليم وقف أمام تابوت عهد الرب وأصعد محرقات وقرَّب ذبائح سلامة وعمل وليمة لكل عبيده.

سليمان المتواضع:
-------------------------
قال سليمان للرب: »أَنَا فَتىً صَغِيرٌ لَا أَعْلَمُ الْخُرُوجَ وَالدُّخُولَ«. هذه الروح الجميلة هي روح متواضعة، ترغب في أن تتعلم. وما أحوجنا أن نقف أمام الله دائماً في تواضع، نطلب منه أن يعلمنا وأن يعطينا الحكمة. ويقول لنا الإنجيل المقدس: »إِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ تُعْوِزُهُ حِكْمَةٌ فَلْيَطْلُبْ مِنَ اللّهِ الَّذِي يُعْطِي الْجَمِيعَ بِسَخَاءٍ وَلَا يُعَيِّرُ، فَسَيُعْطَى لَهُ. وَلكِنْ لِيَطْلُبْ بِإِيمَانٍ غَيْرَ مُرْتَابٍ الْبَتَّةَ، لِأَنَّ الْمُرْتَابَ يُشْبِهُ مَوْجاً مِنَ الْبَحْرِ تَخْبِطُهُ الرِّيحُ وَتَدْفَعُهُ. فَلَا يَظُنَّ ذلِكَ الْإِنْسَانُ أَنَّهُ يَنَالُ شَيْئاً مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ. رَجُلٌ ذُو رَأْيَيْنِ هُوَ مُتَقَلْقِلٌ فِي جَمِيعِ طُرُقِهِ وَلْيَفْتَخِرِ الْأَخُ الْمُتَّضِعُ بِارْتِفَاعِهِ، وَأَمَّا الْغَنِيُّ فَبِاتِّضَاعِهِ، لِأَنَّهُ كَزَهْرِ الْعُشْبِ يَزُولُ. لِأَنَّ الشَّمْسَ أَشْرَقَتْ بِالْحَرِّ، فَيَبَّسَتِ الْعُشْبَ، فَسَقَطَ زَهْرُهُ وَفَنِيَ جَمَالُ مَنْظَرِهِ. هكَذَا يَذْبُلُ الْغَنِيُّ أَيْضاً فِي طُرُقِهِ« (يعقوب 1:5-11).

أيها القارئ الكريم، لو أن الله قال لك: »اسأل ماذا أعطيك؟«. لا بد أن هذه تكون نقطة تحوُّل في حياتك. ماذا عساك تقول؟ إلى أي شيء يشتاق قلبك أكثر مما يمكن أن تمنحه لك الأرض والأصحاب المحيطون بك؟ هل ترغب في أن تعرف الله معرفة أكبر؟ هل تشتاق أن تتقدس أكثر في محبة الله؟ استمع إلى ما قال نبي الله داود في مزموره السابع والعشرين:

»وَاحِدَةً سَأَلْتُ مِنَ الرَّبِّ وَإِيَّاهَا أَلْتَمِسُ: أَنْ أَسْكُنَ فِي بَيْتِ الرَّبِّ كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِي، لِكَيْ أَنْظُرَ إِلَى جَمَالِ الرَّبِّ، وَأَتَفَرَّسَ فِي هَيْكَلِهِ. لِأَنَّهُ يُخَبِّئُنِي فِي مَظَلَّتِهِ فِي يَوْمِ الشَّرِّ. يَسْتُرُنِي بِسِتْرِ خَيْمَتِهِ. عَلَى صَخْرَةٍ يَرْفَعُنِي. وَالْآنَ يَرْتَفِعُ رَأْسِي عَلَى أَعْدَائِي حَوْلِي، فَأَذْبَحُ فِي خَيْمَتِهِ ذَبَائِحَ الْهُتَافِ. أُغَنِّي وَأُرَنِّمُ لِلرَّبِّ« (مزمور 27:4-6).

سليمان الحكيم:
----------------------
ظهرت حكمة سليمان في كثير من المواقف. تذكر التوراة المقدسة لنا منها قصة تقول إن امرأتين أتتا إلى الملك سليمان ووقفتا بين يديه. قالت إحداهما: »اسْتَمِعْ يَا سَيِّدِي. إِنِّي أَنَا وَهذِهِ الْمَرْأَةُ سَاكِنَتَانِ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ وَلَدْتُ مَعَهَا فِي الْبَيْتِ. وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ بَعْدَ وِلَادَتِي وَلَدَتْ هذِهِ الْمَرْأَةُ أَيْضاً، وَكُنَّا مَعاً وَلَمْ يَكُنْ مَعَنَا غَرِيبٌ فِي الْبَيْتِ. فَمَاتَ ابْنُ هذِهِ فِي اللَّيْلِ لِأَنَّهَا اضْطَجَعَتْ عَلَيْهِ. فَقَامَتْ فِي وَسَطِ اللَّيْلِ وَأَخَذَتِ ابْنِي مِنْ جَانِبِي وَأَمَتُكَ نَائِمَةٌ، وَأَضْجَعَتْهُ فِي حِضْنِهَا، وَأَضْجَعَتِ ابْنَهَا الْمَيِّتَ فِي حِضْنِي. فَلَمَّا قُمْتُ صَبَاحاً لِأُرَضِّعَ ابْنِي إِذَا هُوَ مَيِّتٌ. وَلَمَّا تَأَمَّلْتُ فِيهِ فِي الصَّبَاحِ إِذَا هُوَ لَيْسَ ابْنِيَ الَّذِي وَلَدْتُهُ«. وجعلت كلٌّ من السيدتين تتهم الأخرى أن ابن زميلتها هو الميت وأن ابن المتكلمة هو الحي. وهنا قال الملك سليمان: »اِيتُونِي بِسَيْفٍ«. فَأَتُوا بِسَيْفٍ فَقَالَ الْمَلِكُ: »اشْطُرُوا الْوَلَدَ الْحَيَّ اثْنَيْنِ، وَأَعْطُوا نِصْفاً لِلْوَاحِدَةِ وَنِصْفاً لِلْأُخْرَى«. فقالت الأم الحقيقية: »اسْتَمِعْ يَا سَيِّدِي. أَعْطُوهَا الْوَلَدَ الْحَيَّ وَلَا تُمِيتُوهُ«. أما المرأة التي كانت تدّعي أمومة الولد فقالت: »اُشْطُرُوهُ« (1ملوك 3:17-26). عندئذ أصدر الملك سليمان أمره أن يُعطى الولد الحيّ لأمه الحقيقية التي أشفقت عليه.

سليمان ينظم مملكته:
-------------------------
ظهرت حكمة سليمان في تنظيم شئون المملكة. كان الملك داود قد هزم كثيراً من الدول المحيطة به، فورث سليمان مملكة عظيمة من نهر الفرات في الشرق إلى حدود مصر في الغرب والجنوب، وتمتع الشعب بسلام كبير في فترة حكمه. وتقول التوراة: »وَكَانَ سُلَيْمَانُ مُتَسَلِّطاً عَلَى جَمِيعِ الْمَمَالِكِ مِنَ النَّهْرِ إِلَى أَرْضِ فِلِسْطِينَ وَإِلَى تُخُومِ مِصْرَ. كَانُوا يُقَدِّمُونَ الْهَدَايَا وَيَخْدِمُونَ سُلَيْمَانَ كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِهِ... لِأَنَّهُ كَانَ مُتَسَلِّطاً عَلَى كُلِّ مَا عَبْرَ النَّهْرِ مِنْ تَفْسَحَ إِلَى غَزَّةَ عَلَى كُلِّ مُلُوكِ عَبْرِ النَّهْرِ، وَكَانَ لَهُ صُلْحٌ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِ حَوَالَيْهِ« (1ملوك 4:21-24). ولم يكن سليمان متسلطاً فقط على الملوك، بل كان موضع احترامهم وإجلالهم. فتقول التوراة أيضاً: »وَكَانَ صِيتُهُ فِي جَمِيعِ الْأُمَمِ حَوَالَيْهِ. وَكَانُوا يَأْتُونَ مِنْ جَمِيعِ الشُّعُوبِ لِيَسْمَعُوا حِكْمَةَ سُلَيْمَانَ مِنْ جَمِيعِ مُلُوكِ الْأَرْضِ الَّذِينَ سَمِعُوا بِحِكْمَتِهِ« (1ملوك 4:31 و34). وتقول التوراة أيضاً: »وَكَانَ يَهُوذَا وَإِسْرَائِيلُ كَثِيرِينَ كَالرَّمْلِ الَّذِي عَلَى الْبَحْرِ فِي الْكَثْرَةِ. يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَفْرَحُونَ. وَسَكَنَ يَهُوذَا وَإِسْرَائِيلُ آمِنِينَ كُلُّ وَاحِدٍ تَحْتَ كَرْمَتِهِ وَتَحْتَ تِينَتِهِ مِنْ دَانَ إِلَى بِئْرِ سَبْعٍ كُلَّ أَيَّامِ سُلَيْمَانَ« (1ملوك 4:20 و25).

ويقول المؤرخون إن عدد بني إسرائيل وقت حكم الملك سليمان كان أربعة ملايين. وقال أحد المؤرخين الدينيين: »لئن كان الملك داود قد أقام أمة إسرائيل، فإن الملك سليمان قد أقام دولة إسرائيل«. فكان يعاون الملك سليمان في ملكه اثنا عشر وكيلاً، هم رئيس الكهنة ومعه كاهنان، وكاتبان يكتبان مكاتيب الملك، ومسجل يؤرخ ويكتب الحوادث المهمة. كما كان هناك رئيس للجيش، ورئيس على الوكلاء، وصاحب للملك هو المستشار، ورئيس للبيت - وهذا هو أول ذكر لهذا المنصب. وكان له رئيس للتسخير ليقيم أبنية سليمان العظيمة، لبناء الهكيل ومدن المخازن. وكان للملك اثنا عشر وكيلاً آخرين، كل وكيل على قسم من الشعب، يجمع من قسمه نفقات شهر لبيت الملك. وكان اثنان من هؤلاء الوكلاء متزوجين من ابنتين للملك سليمان. ولقد كان السلام المستمر في مملكة سليمان مصدر نجاح وثراء. وتقول التوراة: »وَأَعْطَى اللّهُ سُلَيْمَانَ حِكْمَةً وَفَهْماً كَثِيراً جِدّاً وَرَحْبَةَ قَلْبٍ كَالرَّمْلِ الَّذِي عَلَى شَاطِئِ الْبَحْرِ. وَفَاقَتْ حِكْمَةُ سُلَيْمَانَ حِكْمَةَ جَمِيعِ بَنِي الْمَشْرِقِ وَكُلَّ حِكْمَةِ مِصْرَ. وَكَانَ أَحْكَمَ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ مِنْ أَيْثَانَ الْأَزْرَاحِيِّ وَهَيْمَانَ وَكَلْكُولَ وَدَرْدَعَ بَنِي مَاحُولَ. وَكَانَ صِيتُهُ فِي جَمِيعِ الْأُمَمِ حَوَالَيْهِ. وَتَكَلَّمَ بِثَلَاثَةِ آلَافِ مَثَلٍ، وَكَانَتْ نَشَائِدُهُ أَلْفاً وَخَمْساً. وَتَكَلَّمَ عَنِ الْأَشْجَارِ، مِنَ الْأَرْزِ الَّذِي فِي لُبْنَانَ إِلَى الزُّوفَا النَّابِتِ فِي الْحَائِطِ. وَتَكَلَّمَ عَنِ الْبَهَائِمِ وَعَنِ الطَّيْرِ وَعَنِ الدَّبِيبِ وَعَنِ السَّمَكِ. وَكَانُوا يَأْتُونَ مِنْ جَمِيعِ الشُّعُوبِ لِيَسْمَعُوا حِكْمَةَ سُلَيْمَانَ مِنْ جَمِيعِ مُلُوكِ الْأَرْضِ الَّذِينَ سَمِعُوا بِحِكْمَتِهِ« (1ملوك 4:29-34).

-------------------------------------------------------------

سليمان يبني الهيكل
=============

عرفنا أن الملك داود، قبل موته، أوصى ابنه الملك سليمان أن يقيم بناء الهيكل الذي حاول هو أن يبنيه، ولكن الله منعه عن أن يبنيه، لأن يديه سفكتا كثيراً من الدماء. أما عهد سليمان فهو عهد سلام، ولذلك رضي الله أن يبني سليمان له الهيكل المقدس. صحيح أن الملك داود جهّز كثيراً من الفضة والذهب والنحاس والحديد والأخشاب لبناء بيت الرب، ولكن سليمان هو الذي قام بذلك البناء.

في السنة الرابعة من بدء حكم الملك سليمان بدأ العمل العظيم في بناء هيكل أورشليم. واكتشف سليمان أنه يحتاج إلى مزيد من الأخشاب لبناء بيت الرب، أكثر من تلك الأخشاب التي جهزها داود أبوه. ولذلك أرسل إلى ملك صور - يقول له: »أَنْتَ تَعْلَمُ دَاوُدَ أَبِي أَنَّهُ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَبْنِيَ بَيْتاً لاِسْمِ الرَّبِّ إِلهِهِ بِسَبَبِ الْحُرُوبِ الَّتِي أَحَاطَتْ بِهِ، حَتَّى جَعَلَهُمُ الرَّبُّ تَحْتَ بَطْنِ قَدَمَيْهِ. وَالْآنَ فَقَدْ أَرَاحَنِيَ الرَّبُّ إِلهِي مِنْ كُلِّ الْجِهَاتِ فَلَا يُوجَدُ خَصْمٌ وَلَا حَادِثَةُ شَرٍّ. وَهَئَنَذَا قَائِلٌ عَلَى بِنَاءِ بَيْتٍ لاِسْمِ الرَّبِّ إِلهِي كَمَا قَالَ الرَّبُّ لِدَاوُدَ أَبِي: إِنَّ ابْنَكَ الَّذِي أَجْعَلُهُ مَكَانَكَ عَلَى كُرْسِيِّكَ هُوَ يَبْنِي الْبَيْتَ لاِسْمِي. وَالْآنَ فَأْمُرْ أَنْ يَقْطَعُوا لِي أَرْزاً مِنْ لُبْنَانَ وَيَكُونُ عَبِيدِي مَعَ عَبِيدِكَ، وَأُجْرَةُ عَبِيدِكَ أُعْطِيكَ إِيَّاهَا حَسَبَ كُلِّ مَا تَقُولُ، لِأَنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَنَا أَحَدٌ يَعْرِفُ قَطْعَ الْخَشَبِ مِثْلَ الصَّيْدُونِيِّينَ« (1ملوك 5:3-6).

وفرح الملك حيرام فرحاً كثيراً بذلك، وأرسل لسليمان يقول: »مُبَارَكٌ الْيَوْمَ الرَّبُّ الَّذِي أَعْطَى دَاوُدَ ابْناً حَكِيماً عَلَى هذَا الشَّعْبِ الْكَثِيرِ«. وَأَرْسَلَ حِيرَامُ إِلَى سُلَيْمَانَ قَائِلاً: »قَدْ سَمِعْتُ مَا أَرْسَلْتَ بِهِ إِلَيَّ. أَنَا أَفْعَلُ كُلَّ مَسَرَّتِكَ فِي خَشَبِ الْأَرْزِ وَخَشَبِ السَّرْوِ. عَبِيدِي يُنْزِلُونَ ذلِكَ مِنْ لُبْنَانَ إِلَى الْبَحْرِ، وَأَنَا أَجْعَلُهُ أَرْمَاثاً فِي الْبَحْرِ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي تُعَرِّفُنِي عَنْهُ وَأَفُكُّهُ هُنَاكَ، وَأَنْتَ تَحْمِلُهُ وَتَعْمَلُ مَرْضَاتِي بِإِعْطَائِكَ طَعَاماً لِبَيْتِي« فكان حيرام يعطي الملك سليمان خشب أرز وخشب سرو. وأعطى سليمان حيرام الكثير من الحنطة والزيت مقابل الأخشاب التي حصل عليها (1ملوك 5:7-12).

سليمان يلجأ للسُّخرة:
-------------------------
كما كان سليمان الحكيم يحتاج إلى أخشاب ليبني بيت الرب، كان يحتاج أيضاً إلى عمال للبناء، ولذلك لجأ إلى السُخرة. وقد بدأ سليمان بتسخير أبناء الأموريين والحثيين والفرزيين والحويين واليبوسيين. ولكنه اكتشف بعد ذلك أنه يحتاج إلى مزيد من العمال، فابتدأ يسخر بني إسرائيل في ذلك. وتقول التوراة إن الملك سليمان سخر ثلاثين ألف رجل أرسلهم إلى لبنان، عشرة آلاف كل شهر، يكونون شهراً في لبنان وشهرين في بيوتهم. وكان له سبعون ألف رجل يحملون أحمالاً، وثمانون ألفاً يقطعون في الجبل، ما عدا رؤساء الوكلاء الذين على العمل، كان عددهم ثلاثة آلاف وثلاث مئة.

وعلاوة على الأخشاب التي قطعوها من لبنان، فإنهم أيضاً كانوا يقطعون الأحجار من الجبال، فكانوا ينحتون الأحجار في الجبل حسب الحجم المطلوب للبناء. ولم يكن يُسمع في موقع البناء صوت معول. وقد استغرق بناء بيت الرب سبع سنوات، لأنه كان عظيماً فعلاً. كانت الحو ائط من الأحجار المغطاة بخشب، كما غطى سليمان بيت الرب من الداخل بالذهب الخالص، وجميع حوائط البيت في مستديرها نقشها بحفر من الكروبيم والنخل وبراعم الزهور، من الداخل ومن الخارج.

وفي داخل البيت كانت هناك حجرة مكعبة اسمها قدس الأقداس، كان يُوضع فيها تابوت العهد الذي كان يحتوي على لوحين من الحجر، كان الله قد كتب عليهما الوصايا العشر منذ أيام موسى، وكان التابوت يرمز إلى حضور الله. وقد اشترك رجل حكيم اسمه »حورام أبي« في عمل الأواني اللازمة للهيكل، لأنه كان صانعاً ماهراً في الذهب والفضة والنحاس والحديد والحجارة والأرجوان والأسمانجوني والكتان والقرمز، ونقش كل نوع من النقوش.

ولا بد أنه قد اشترك مع »حورام أبي« عدد كبير من العمال ليجهزوا الأقمشة اللازمة لثياب الكهنة، ولستائر قدس الأقدس، ولقد تم هذا العمل الكبير بمعونة الله وكان نجاحاً متكاملاً، فجاء البناء عظيماً فعلاً، حتى ظن كثيرون أن الذين قاموا ببناء هيكل سليمان ليسوا من البشر، ولكن التوراة تقول لنا: إن رجالاً مختلفين قاموا بهذه الأعمال بمعونة الرب وإرشاده. وعندما يستخدم الرب إنساناً، فإنه يمنحه النعمة والحكمة وإرشاد الروح القدس، فيعمل أشياء كثيرة وغريبة، فلقد قال رسول المسيحية بولس: »أَسْتَطِيعُ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ الَّذِي يُقَوِّينِي« (فيلبي 4:13).

أيها القارئ الكريم، عندما نسلم نفوسنا بين يدي الله، يعمل بنا، ويشغلنا لنعمل معجزات ولنُجري أموراً عجيبة. أدعوك لأن تسلم حياتك لله لتبني هيكله. وهيكل الله في أيامنا هذه هو أجسادنا. وعندما تفتح قلبك لله يسكن فيك ويملك حياتك.

رسالة من الله لسليمان:
--------------------------
عندما كان سليمان يبني هيكل الرب قال الرب له: »هذَا الْبَيْتُ الَّذِي أَنْتَ بَانِيهِ، إِنْ سَلَكْتَ فِي فَرَائِضِي وَعَمِلْتَ أَحْكَامِي وَحَفِظْتَ كُلَّ وَصَايَايَ لِلسُّلُوكِ بِهَا، فَإِنِّي أُقِيمُ مَعَكَ كَلَامِي الَّذِي تَكَلَّمْتُ بِهِ إِلَى دَاوُدَ أَبِيكَ، وَأَسْكُنُ فِي وَسَطِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا أَتْرُكُ شَعْبِي إِسْرَائِيلَ« (1ملوك 6:12 و13). ولذلك فإن سليمان بعد أن أكمل بناء الهيكل جمع عدداً كبيراً من قادة وشيوخ بني إسرائيل في أورشليم ليدشن الهيكل، وليُحضر تابوت العهد من الخيمة التي كان أبوه داود قد وضع التابوت فيها. وأدخل سليمان التابوت إلى قدس الأقداس، وهو الجزء الداخلي من الهيكل. وعندما كانوا ينقلون التابوت كانوا يذبحون من الغنم والبقر ما لا يُحصى ولا يُعد من الكثرة، كما تقول التوراة. وأدخل الكهنة تابوت عهد الرب إلى مكانه في محراب البيت في قدس الأقداس إلى تحت جناحي الكروبين (1ملوك 8:1-6). وكان يتقدم هذا كله ويرافقه مجموعة كبيرة من المرتلين الذين كانوا يُنشدون التسابيح ويستعملون الآلات الموسيقية المعروفة لهم، وكانت اللازمة التي رافقت تراتيل هؤلاء تقول: »لِأَنَّ الرَّبَّ صَالِحٌ. إِلَى الْأَبَدِ رَحْمَتُهُ« (مزمور 100:5). وملأ السحاب الهيكل رمزاً إلى أن مجد الله قد ملأ هيكله، حتى لم يستطع الكهنة أن يقفوا ليقدموا خدمة العبادة بسبب السحاب، وهذا ما تسميه التوراة »الشكينة« أي سحابة النور المعجزي التي تظهر على غطاء تابوت العهد (خروج 40:35، لاويين 16:2، 1ملوك 8:10).

بعد أن حل السحاب الذي تسميه التوراة »الشكينة« على بيت الرب علّم سليمان قادة بني إسرائيل الواقفين وقال: »مُبَارَكٌ الرَّبُّ إِلهُ إِسْرَائِيلَ الَّذِي تَكَلَّمَ بِفَمِهِ إِلَى دَاوُدَ أَبِي وَأَكْمَلَ بِيَدِهِ قَائِلاً: مُنْذُ يَوْمَ أَخْرَجْتُ شَعْبِي إِسْرَائِيلَ مِنْ مِصْرَ لَمْ أَخْتَرْ مَدِينَةً مِنْ جَمِيعِ أَسْبَاطِ إِسْرَائِيلَ لِبِنَاءِ بَيْتٍ لِيَكُونَ اسْمِي هُنَاكَ، بَلِ اخْتَرْتُ دَاوُدَ لِيَكُونَ عَلَى شَعْبِي إِسْرَائِيلَ. وَكَانَ فِي قَلْبِ دَاوُدَ أَبِي أَنْ يَبْنِيَ بَيْتاً لاِسْمِ الرَّبِّ إِلهِ إِسْرَائِيلَ. فَقَالَ الرَّبُّ لِدَاوُدَ أَبِي: مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ كَانَ فِي قَلْبِكَ أَنْ تَبْنِيَ بَيْتاً لاِسْمِي قَدْ أَحْسَنْتَ بِكَوْنِهِ فِي قَلْبِكَ. إِلَّا إِنَّكَ أَنْتَ لَا تَبْنِي الْبَيْتَ، بَلِ ابْنُكَ الْخَارِجُ مِنْ صُلْبِكَ هُوَ يَبْنِي الْبَيْتَ لاِسْمِي. وَأَقَامَ الرَّبُّ كَلَامَهُ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ، وَقَدْ قُمْتُ أَنَا مَكَانَ دَاوُدَ أَبِي وَجَلَسْتُ عَلَى كُرْسِيِّ إِسْرَائِيلَ كَمَا تَكَلَّمَ الرَّبُّ، وَبَنَيْتُ الْبَيْتَ لاِسْمِ الرَّبِّ إِلهِ إِسْرَائِيلَ وَجَعَلْتُ هُنَاكَ مَكَاناً لِلتَّابُوتِ الَّذِي فِيهِ عَهْدُ الرَّبِّ الَّذِي قَطَعَهُ مَعَ آبَائِنَا عِنْدَ إِخْرَاجِهِ إِيَّاهُمْ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ« (1ملوك 8:15-21).

صلاة سليمان لتدشين الهكيل:
---------------------------------
ورفع سليمان صلاة لله هي صلاة تدشين الهكيل: قال بعد أن بسط يديه إلى السماء: »أَيُّهَا الرَّبُّ إِلهُ إِسْرَائِيلَ، لَيْسَ إِلهٌ مِثْلَكَ فِي السَّمَاءِ مِنْ فَوْقُ وَلَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ أَسْفَلُ، حَافِظُ الْعَهْدِ وَالرَّحْمَةِ لِعَبِيدِكَ السَّائِرِينَ أَمَامَكَ بِكُلِّ قُلُوبِهِمْ... هَلْ يَسْكُنُ اللّهُ حَقّاً عَلَى الْأَرْضِ؟ هُوَذَا السَّمَاوَاتُ وَسَمَاءُ السَّمَاوَاتِ لَا تَسَعُكَ، فَكَمْ بِالْأَقَلِّ هذَا الْبَيْتُ الَّذِي بَنَيْتُ؟ فَالْتَفِتْ إِلَى صَلَاةِ عَبْدِكَ وَإِلَى تَضَرُّعِهِ أَيُّهَا الرَّبُّ إِلهِي، وَاسْمَعِ الصُّرَاخَ وَالصَّلَاةَ الَّتِي يُصَلِّيهَا عَبْدُكَ أَمَامَكَ الْيَوْمَ. لِتَكُونَ عَيْنَاكَ مَفْتُوحَتَيْنِ عَلَى هذَا الْبَيْتِ لَيْلاً وَنَهَاراً، عَلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي قُلْتَ: إِنَّ اسْمِي يَكُونُ فِيهِ لِتَسْمَعَ الصَّلَاةَ الَّتِي يُصَلِّيهَا عَبْدُكَ فِي هذَا الْمَوْضِعِ. وَاسْمَعْ... فَاغْفِرْ... إِذَا انْكَسَرَ شَعْبُكَ إِسْرَائِيلُ أَمَامَ الْعَدُّوِ لِأَنَّهُمْ أَخْطَأُوا إِلَيْكَ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَيْكَ وَاعْتَرَفُوا بِاسْمِكَ وَصَلُّوا وَتَضَرَّعُوا إِلَيْكَ نَحْوَ هذَا الْبَيْتِ، فَاسْمَعْ أَنْتَ مِنَ السَّمَاءِ وَاغْفِرْ خَطِيَّةَ شَعْبِكَ إِسْرَائِيلَ، وَأَرْجِعْهُمْ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي أَعْطَيْتَهَا لِآبَائِهِمْ. إِذَا أُغْلِقَتِ السَّمَاءُ وَلَمْ يَكُنْ مَطَرٌ لِأَنَّهُمْ أَخْطَأُوا إِلَيْكَ، ثُمَّ صَلُّوا فِي هذَا الْمَوْضِعِ وَاعْتَرَفُوا بِاسْمِكَ، وَرَجَعُوا عَنْ خَطِيَّتِهِمْ لِأَنَّكَ ضَايَقْتَهُمْ فَاسْمَعْ أَنْتَ مِنَ السَّمَاءِ وَاغْفِرْ خَطِيَّةَ عَبِيدِكَ... فَتُعَلِّمَهُمُ الطَّرِيقَ الصَّالِحَ الَّذِي يَسْلُكُونَ فِيهِ، وَأَعْطِ مَطَراً عَلَى أَرْضِكَ الَّتِي أَعْطَيْتَهَا لِشَعْبِكَ مِيرَاثاً. إِذَا صَارَ فِي الْأَرْضِ جُوعٌ، إِذَا صَارَ وَبَأٌ، إِذَا صَارَ لَفْحٌ أَوْ يَرَقَانٌ أَوْ جَرَادٌ جَرْدَمٌ، أَوْ إِذَا حَاصَرَهُ عَدُّوُهُ فِي أَرْضِ مُدُنِهِ فِي كُلِّ ضَرْبَةٍ وَكُلِّ مَرَضٍ..فَاسْمَعْ أَنْتَ مِنَ السَّمَاءِ مَكَانِ سُكْنَاكَ وَاغْفِرْ، وَاعْمَلْ وَأَعْطِ كُلَّ إِنْسَانٍ حَسَبَ كُلِّ طُرُقِهِ كَمَا تَعْرِفُ قَلْبَهُ. لِأَنَّكَ أَنْتَ وَحْدَكَ قَدْ عَرَفْتَ قُلُوبَ كُلِّ بَنِي الْبَشَرِ. لِيَخَافُوكَ كُلَّ الْأَيَّامِ الَّتِي يَحْيُونَ فِيهَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ الَّتِي أَعْطَيْتَ لِآبَائِنَا... لِيَعْلَمَ كُلُّ شُعُوبِ الْأَرْضِ اسْمَكَ فَيَخَافُوكَ كَشَعْبِكَ إِسْرَائِيلَ، وَلِيَعْلَمُوا أَنَّهُ قَدْ دُعِيَ اسْمُكَ عَلَى هذَا الْبَيْتِ الَّذِي بَنَيْتُ. ... لِتَكُونَ عَيْنَاكَ مَفْتُوحَتَيْنِ نَحْوَ تَضَرُّعِ عَبْدِكَ وَتَضَرُّعِ شَعْبِكَ إِسْرَائِيلَ، فَتُصْغِيَ إِلَيْهِمْ فِي كُلِّ مَا يَدْعُونَكَ« (1ملوك 8:22-52).

سليمان يبارك الشعب:
-------------------------
بعد أن رفع سليمان صلاة تدشين الهكيل، وقف ويداه مبسوطتان نحو السماء، وبارك كل الشعب قائلاً: »مُبَارَكٌ الرَّبُّ الَّذِي أَعْطَى رَاحَةً لِشَعْبِهِ إِسْرَائِيلَ حَسَبَ كُلِّ مَا تَكَلَّمَ بِهِ، وَلَمْ تَسْقُطْ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ كُلِّ كَلَامِهِ الصَّالِحِ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ عَنْ يَدِ مُوسَى عَبْدِهِ. لِيَكُنِ الرَّبُّ إِلهُنَا مَعَنَا كَمَا كَانَ مَعَ آبَائِنَا فَلَا يَتْرُكَنَا وَلَا يَرْفُضَنَا. لِيَمِيلَ بِقُلُوبِنَا إِلَيْهِ لِنَسِيرَ فِي جَمِيعِ طُرُقِهِ وَنَحْفَظَ وَصَايَاهُ وَفَرَائِضَهُ وَأَحْكَامَهُ الَّتِي أَوْصَى بِهَا آبَاءَنَا. وَلِيَكُنْ كَلَامِي هذَا الَّذِي تَضَرَّعْتُ بِهِ أَمَامَ الرَّبِّ قَرِيباً مِنَ الرَّبِّ إِلهِنَا نَهَاراً وَلَيْلاً، لِيَقْضِيَ قَضَاءَ عَبْدِهِ وَقَضَاءَ شَعْبِهِ إِسْرَائِيلَ، أَمْرَ كُلِّ يَوْمٍ فِي يَوْمِهِ. لِيَعْلَمَ كُلُّ شُعُوبِ الْأَرْضِ أَنَّ الرَّبَّ هُوَ اللّهُ وَلَيْسَ آخَرُ. فَلِْيَكُنْ قَلْبُكُمْ كَامِلاً لَدَى الرَّبِّ إِلهِنَا إِذْ تَسِيرُونَ فِي فَرَائِضِهِ وَتَحْفَظُونَ وَصَايَاهُ كَهذَا الْيَوْمِ« (1ملوك 8:54-61).

وبعد أن بارك الملك سليمان الشعب بدأ يقدم المحرقات لله، فنزلت نار من السماء أكلت الذبائح من على المذبح، وسجد الشعب إلى الأرض حمداً وسبحاً لله، بينما الموسيقى تعزف التراتيل التي تسبح الله، واحتفل الشعب احتفالاً عظيماً استمر أسبوعاً كاملاً قبل أن يرجعوا إلى بيوتهم بقلوب عامرة بالفرح. ثم ظهر الرب مرة أخرى لسليمان وقال له: »قَدْ سَمِعْتُ صَلَاتَكَ وَتَضَرُّعَكَ الَّذِي تَضَرَّعْتَ بِهِ أَمَامِي. قَدَّسْتُ هذَا الْبَيْتَ الَّذِي بَنَيْتَهُ لِأَجْلِ وَضْعِ اسْمِي فِيهِ إِلَى الْأَبَدِ، وَتَكُونُ عَيْنَايَ وَقَلْبِي هُنَاكَ كُلَّ الْأَيَّامِ. وَأَنْتَ إِنْ سَلَكْتَ أَمَامِي كَمَا سَلَكَ دَاوُدُ أَبُوكَ بِسَلَامَةِ قَلْبٍ وَاسْتِقَامَةٍ، وَعَمِلْتَ حَسَبَ كُلِّ مَا أَوْصَيْتُكَ وَحَفِظْتَ فَرَائِضِي وَأَحْكَامِي، فَإِنِّي أُقِيمُ كُرْسِيَّ مُلْكِكَ عَلَى إِسْرَائِيلَ إِلَى الْأَبَدِ كَمَا قُلْتُ لِدَاوُدَ أَبِيكَ« (1ملوك 9:3-5).

ونحن نعلم أيها القارئ الكريم أن الشعب لم يصغوا إلى قول الرب، ولا فعل سليمان، فكانت النتيجة أن تهدم الهيكل، ولم يُترك فيه حجر على حجر لم يُنقض، وهذا الأمر يجعلنا نتبنه دائماً إلى ضرورة سلوكنا في طاعة الله.

مزيد من مباني سليمان:
---------------------------
كان سليمان معمارياً عظيماً حتى قيل عنه إنه يشبه رمسيس الثاني في مصر لكثرة ما بنى، فقد بنى سليمان أبنية أخرى غير الهيكل العظيم. بنى بيت وعر لبنان ورواق الأعمدة ورواق الكرسي الذي كان موضع القضاء، كما بنى بيتاً لابنة فرعون، وبنى قلعة لحماية الهيكل، وبنى حصوناً عديدة في أنحاء المملكة ليحمي المملكة ويدافع عنها، ولم يترك سليمان مجالاً لملك آخر ليبني بعده فقد أكمل الملوك الذين جاءوا بعده أو رمموا ما بدأ سليمان به. ولم يكن سليمان يؤمن بعقيدة نزع السلاح، فقد تكرر القول في التوراة: »وجمع سليمان مراكب وفرساناً فكان له ألف وأربعمائة مركبة، واثنا عشر ألف فارس، فأقامهم في مدن المراكب، ومع الملك في أورشليم«. وتقول التوراة أيضاً إن الملك سليمان عمل سفناً في عصيون جابر، التي بجانب أيلة على شاطئ بحر سوف، في أرض أدوم« (1ملوك 9:26). وأرسل صديقه الملك حيرام ملك صور، عبيده في تلك السفن لأنهم كانوا عارفين بالبحر مع عبيد سليمان، فأتوا إلى بلاد أوفير، وأخذوا من هناك ذهباً 420 وزنة، وأتوا بها إلى الملك سليمان، وفي وسط هذه كلها كان سليمان يُقيم صلواته، فكان يُصعد ثلاث مرات في السنة محرقات وذبائح سلامة على المذبح الذي بناه للرب.

--------------------------------------------------------------

ملكة سبا تسمع حكمة سليمان
=================

في منتصف فترة حكمه استقبل سليمان زائرة جاءت من بلاد بعيدة، هي ملكة سبا، لتسمع حكمته (1ملوك 10) ولم تكن تلك الزيارة مثل الزيارات المألوفة منذ بدء التاريخ التي يتبادلها الملوك والملكات بين بعضهم البعض، فقد كانت تلك تُصبغ بالصبغة السياسية، وتنتهي بأحلاف ومعاهدات سياسية أو حربية، لكن زيارة ملكة سبأ لسليمان طُبعت بالطابع الروحي، فقد سمعت في بلادها البعيدة، عن الرب إله إسرائيل، ما اجتذب قلبها، فاشتهت أن تعرف عن هذا الإله الواحد أكثر، وذلك من عبده سليمان الذي كان يملك أورشليم. وكان يشغل قلب تلك الملكة مسائل كثيرة، لم يقدر أحد ممن يجاورونها أن يجاوب على أسئلتها. ونحن لا نعرف بالضبط مكان تلك المملكة، غير أنه من المحتمل أنها كانت واقعة في جنوب بلاد العرب، في المناطق التي سكنها أبناء يقطان الذي جاء من نسل سام بن نوح. وكانت تلك الزيارة الملكية التي قامت بها ملكة سبأ هي أول استجابة للصلاة التي رفعها سليمان عندما دشن الهيكل، فلقد التمس سليمان من الله أن يهتم بالغريب الذي يأتي من بلاد بعيدة يلتمس وجه الله في هيكله المقدس، فتقول التوراة: »سمعت ملكة سبا بخبر سليمان لمجد الرب«.

ملكة سبا ترى تنظيم سليمان:
-----------------------------
أخذ سليمان ملكة سبا ليُريها أبنيته ونظام حكمه، فلما رأت كل حكمة سليمان والبيت الذي بناه، وطعام مائدته ومجلس رجاله وموقف خدامه وملابسهم، ومحرقاته التي كان يُصعدها في بيت الرب، لم يبق فيها روح بعد. فقالت للملك: »صَحِيحاً كَانَ الْخَبَرُ الَّذِي سَمِعْتُهُ فِي أَرْضِي عَنْ أُمُورِكَ وَعَنْ حِكْمَتِكَ. وَلَمْ أُصَدِّقِ الْأَخْبَارَ حَتَّى جِئْتُ وَأَبْصَرَتْ عَيْنَايَ، فَهُوَذَا النِّصْفُ لَمْ أُخْبَرْ بِهِ. زِدْتَ حِكْمَةً وَصَلَاحاً عَلَى الْخَبَرِ الَّذِي سَمِعْتُهُ. طُوبَى لِرِجَالِكَ وَطُوبَى لِعَبِيدِكَ هؤُلَاءِ الْوَاقِفِينَ أَمَامَكَ دَائِماً السَّامِعِينَ حِكْمَتَكَ. لِيَكُنْ مُبَارَكاً الرَّبُّ إِلهُكَ الَّذِي سُرَّ بِكَ وَجَعَلَكَ عَلَى كُرْسِيِّ إِسْرَائِيلَ. لِأَنَّ الرَّبَّ أَحَبَّ إِسْرَائِيلَ إِلَى الْأَبَدِ جَعَلَكَ مَلِكاً، لِتُجْرِيَ حُكْماً وَبِرّاً« (1ملوك 10:6-9). وقدمت ملكة سبا للملك سليمان مئة وعشرين وزنة ذهب، وأطياباً كثيرة جداً، وحجارة كريمة. وتقول التوراة: »لَمْ يَأْتِ بَعْدُ مِثْلُ ذلِكَ الطِّيبِ فِي الْكَثْرَةِ الَّتِي أَعْطَتْهُ مَلِكَةُ سَبَا لِلْمَلِكِ سُلَيْمَانَ« (1ملوك 10:10).

شوقنا للحكمة:
-------------------
إن الرغبة العظيمة في قلب ملكة سبا لتجد الحكمة والحق، يجب أن تكون قدوة لكل واحد منا. فبعد ألف سنة من هذه الزيارة وبّخ السيد المسيح رجال يومه عن عدم رغبتهم في الاستماع لحكمته، ليكونوا من أتباعه وقال لهم: »مَلِكَةُ التَّيْمَنِ ( سبا) سَتَقُومُ فِي الدِّينِ مَعَ رِجَالِ هذَا الْجِيلِ وَتَدِينُهُمْ، لِأَنَّهَا أَتَتْ مِنْ أَقَاصِي الْأَرْضِ لِتَسْمَعَ حِكْمَةَ سُلَيْمَانَ« (لوقا 11:31). فما أعظم خطية الذين يسمعون الحق الإلهي ويرفضونه. لقد قطعت ملكة سبا رحلة طويلة شاقة لتلتقي بسليمان، لكن الله في محبته جاء إلينا يفتش على الضال وسطنا ليُرجعه إليه. والمسيح يريد أن نصغي إلى صوت محبته. اسمعه يقول: »هَئَنَذَا وَاقِفٌ عَلَى الْبَابِ وَأَقْرَعُ. إِنْ سَمِعَ أَحَدٌ صَوْتِي وَفَتَحَ الْبَابَ، أَدْخُلُ إِلَيْهِ وَأَتَعَشَّى مَعَهُ وَهُوَ مَعِي« (رؤيا 3:20).

أيها القارئ الكريم، ندعوك أن تصغي إلى حق الله، وأن تفتح قلبك له، وأن تعيش للرب، فهوذا أعظم من سليمان يحدثك. إنه صوت المسيح الذي يريد أن يدخل قلبك ويمتلك حياتك.

معرفة سليمان الواسعة:
--------------------------
حدثتنا التوراة المقدسة عن عظمة سليمان المذهلة، فقد كان عصره عصر نجاح اقتصادي، ولم تكن هناك حروب تستنزف مال الشعب، وأتته سفنه محملة بأربع مائة وعشرين وزنة ذهب، وكانت له أساطيل تجارية في بحر الهند والبحر الأبيض المتوسط، جلبت له الذهب والفضة والعاج والأبنوس والخيل والمركبات والقردة والطواويس. وكان في خدمته عشرة آلاف يأكلون على مائدته، وكانت له آنية فضة وآنية ذهب. وتقول التوارة إن سليمان جعل الفضة مثل الحجارة، وخشب الأرز مثل خشب الجميز. وتُقدر قيمة دخل سليمان سنوياً بما يساوي عشرة ملايين دولار تقريباً. وتقول التوراة إن سليمان كان رحب الصدر جداً، فقد درس كل العلوم التي يمكن أن تُدرس آنذاك، وفاق فيها كل علماء عصره المشهورين، فدرس علم النبات وعلم الحيوان، وعلم الطيور، وكتب الأمثال والحكمة والقصائد. وأغلب الظن أن الملك سليمان هو الذي كتب سفر الجامعة، ونشيد الأنشاد، في التوراة المقدسة.

من كتابات سليمان:
----------------------
ونقدم للقارئ الكريم عيّنة مما كتب سليمان الحكيم. والقراءة التالية من سفر الأمثال الأصحاحين الحادي عشر والثاني عشر:

»‚مَوَازِينُ غِشٍّ مَكْرَهَةُ الرَّبِّ، وَالْوَزْنُ الصَّحِيحُ رِضَاهُ. 2‚تَأْتِي الْكِبْرِيَاءُ فَيَأْتِي الْهَوَانُ، وَمَعَ الْمُتَوَاضِعِينَ حِكْمَةٌ. 3‚اِسْتِقَامَةُ الْمُسْتَقِيمِينَ تَهْدِيهِمْ، وَاعْوِجَاجُ الْغَادِرِينَ يُخْرِبُهُمْ. 4‚لَا يَنْفَعُ الْغِنَى فِي يَوْمِ السَّخَطِ، أَمَّا الْبِرُّ فَيُنَجِّي مِنَ الْمَوْتِ. 5‚بِرُّ الْكَامِلِ يُقَوِّمُ طَرِيقَهُ، أَمَّا الشِّرِّيرُ فَيَسْقُطُ بِشَرِّهِ. 6‚بِرُّ الْمُسْتَقِيمِينَ يُنَجِّيهِمْ، أَمَّا الْغَادِرُونَ فَيُؤْخَذُونَ بِفَسَادِهِمْ. 7‚عِنْدَ مَوْتِ إِنْسَانٍ شِرِّيرٍ يَهْلِكُ رَجَاؤُهُ، وَمُنْتَظَرُ الْأَثَمَةِ يَبِيدُ. 8‚اَلصِّدِّيقُ يَنْجُو مِنَ الضِّيقِ، وَيَأْتِي الشِّرِّيرُ مَكَانَهُ. 9‚بِالْفَمِ يُخْرِبُ الْمُنَافِقُ صَاحِبَهُ، وَبِالْمَعْرِفَةِ يَنْجُو الصِّدِّيقُونَ. 10‚بِخَيْرِ الصِّدِّيقِينَ تَفْرَحُ الْمَدِينَةُ، وَعِنْدَ هَلَاكِ الْأَشْرَارِ هُتَافٌ. 11‚بِبَرَكَةِ الْمُسْتَقِيمِينَ تَعْلُو الْمَدِينَةُ، وَبِفَمِ الْأَشْرَارِ تُهْدَمُ. 12‚اَلْمُحْتَقِرُ صَاحِبَهُ هُوَ نَاقِصُ الْفَهْمِ، أَمَّا ذُو الْفَهْمِ فَيَسْكُتُ. 13‚السَّاعِي بِالْوِشَايَةِ يُفْشِي السِّرَّ، وَالْأَمِينُ الرُّوحِ يَكْتُمُ الْأَمْرَ. 14‚حَيْثُ لَا تَدْبِيرٌ يَسْقُطُ الشَّعْبُ، أَمَّا الْخَلَاصُ فَبِكَثْرَةِ الْمُشِيرِينَ. 15‚ضَرَراً يُضَرُّ مَنْ يَضْمَنُ غَرِيباً، وَمَنْ يُبْغِضُ صَفْقَ الْأَيْدِي مُطْمَئِنٌّ. 16‚اَلْمَرْأَةُ ذَاتُ النِّعْمَةِ تُحَصِّلُ كَرَامَةً، وَالْأَشِدَّاءُ يُحَصِّلُونَ غِنًى. 17‚اَلرَّجُلُ الرَّحِيمُ يُحْسِنُ إِلَى نَفْسِهِ، وَالْقَاسِي يُكَدِّرُ لَحْمَهُ. 18‚اَلشِّرِّيرُ يَكْسَبُ أُجْرَةَ غِشٍّ، وَالّزَارِعُ الْبِرَّ أُجْرَةَ أَمَانَةٍ. 19‚كَمَا أَنَّ الْبِرَّ يَؤُولُ إِلَى الْحَيَاةِ كَذلِكَ مَنْ يَتْبَعُ الشَّرَّ فَإِلَى مَوْتِهِ. 20‚كَرَاهَةُ الرَّبِّ مُلْتَوُو الْقَلْبِ، وَرِضَاهُ مُسْتَقِيمُو الطَّرِيقِ. 21‚يَدٌ لِيَدٍ لَا يَتَبَرَّرُ الشِّرِّيرُ، أَمَّا نَسْلُ الصِّدِّيقِينَ فَيَنْجُو. 22‚خِزَامَةُ ذَهَبٍ فِي فِنْطِيسَةِ خِنْزِيرَةٍ الْمَرْأَةُ الْجَمِيلَةُ الْعَدِيمَةُ الْعَقْلِ. 23‚شَهْوَةُ الْأَبْرَارِ خَيْرٌ فَقَطْ. رَجَاءُ الْأَشْرَارِ سَخَطٌ. 24‚يُوجَدُ مَنْ يُفَرِّقُ فَيَزْدَادُ أَيْضاً، وَمَنْ يُمْسِكُ أَكْثَرَ مِنَ اللَّائِقِ وَإِنَّمَا إِلَى الْفَقْرِ. 25‚النَّفْسُ السَّخِيَّةُ تُسَمَّنُ، وَالْمُرْوِي هُوَ أَيْضاً يُرْوَى. 26‚مُحْتَكِرُ الْحِنْطَةِ يَلْعَنُهُ الشَّعْبُ، وَالْبَرَكَةُ عَلَى رَأْسِ الْبَائِعِ. 27‚مَنْ يَطْلُبُ الْخَيْرَ يَلْتَمِسُ الرِّضَا، وَمَنْ يَطْلُبُ الشَّرَّ فَالشَّرُّ يَأْتِيهِ. 28‚مَنْ يَتَّكِلْ عَلَى غِنَاهُ يَسْقُطْ، أَمَّا الصِّدِّيقُونَ فَيَزْهُونَ كَالْوَرَقِ. 29‚مَنْ يُكَدِّرْ بَيْتَهُ يَرِثِ الرِّيحَ، وَالْغَبِيُّ خَادِمٌ لِحَكِيمِ الْقَلْبِ. 30‚ثَمَرُ الصِّدِّيقِ شَجَرَةُ حَيَاةٍ، وَرَابِحُ النُّفُوسِ حَكِيمٌ. 31‚هُوَذَا الصِّدِّيقُ يُجَازَى فِي الْأَرْضِ، فَكَمْ بِالْحَرِيِّ الشِّرِّيرُ وَالْخَاطِئُ!«.

اَلْأَصْحَاحُ الثَّانِي عَشَرَ
---------------------------
1‚»مَنْ يُحِبُّ التَّأْدِيبَ يُحِبُّ الْمَعْرِفَةَ، وَمَنْ يُبْغِضُ التَّوْبِيخَ فَهُوَ بَلِيدٌ. 2‚الصَّالِحُ يَنَالُ رِضىً مِنْ الرَّبِّ، أَمَّا رَجُلُ الْمَكَايِدِ فَيَحْكُمُ عَلَيْهِ. 3‚لَا يُثَبَّتُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ، أَمَّا أَصْلُ الصِّدِّيقِينَ فَلَا يَتَقَلْقَلُ. 4‚اَلْمَرْأَةُ الْفَاضِلَةُ تَاجٌ لِبَعْلِهَا، أَمَّا الْمُخْزِيَةُ فَكَنَخْرٍ فِي عِظَامِهِ. 5‚أَفْكَارُ الصِّدِّيقِينَ عَدْلٌ. تَدَابِيرُ الْأَشْرَارِ غِشٌّ. 6‚كَلَامُ الْأَشْرَارِ كُمُونٌ لِلدَّمِ، أَمَّا فَمُ الْمُسْتَقِيمِينَ فَيُنَجِّيهِمْ. 7‚تَنْقَلِبُ الْأَشْرَارُ وَلَا يَكُونُونَ، أَمَّا بَيْتُ الصِّدِّيقِينَ فَيَثْبُتُ. 8‚بِحَسَبِ فِطْنَتِهِ يُحْمَدُ الْإِنْسَانُ، أَمَّا الْمُلْتَوِي الْقَلْبِ فَيَكُونُ لِلْهَوَانِ. 9‚اَلْحَقِيرُ وَلَهُ عَبْدٌ خَيْرٌ مِنَ الْمُتَمَجِّدِ وَيُعْوِزُهُ الْخُبْزُ. 10‚الصِّدِّيقُ يُرَاعِي نَفْسَ بَهِيمَتِهِ، أَمَّا مَرَاحِمُ الْأَشْرَارِ فَقَاسِيَةٌ. 11‚مَنْ يَشْتَغِلُ بِحَقْلِهِ يَشْبَعُ خُبْزاً، أَمَّا تَابِعُ الْبَطَّالِينَ فَهُوَ عَدِيمُ الْفَهْمِ. 12‚اِشْتَهَى الشِّرِّيرُ صَيْدَ الْأَشْرَارِ، وَأَصْلُ الصِّدِّيقِينَ يُجْدِي. 13‚فِي مَعْصِيَةِ الشَّفَتَيْنِ شَرَكُ الشِّرِّيرِ، أَمَّا الصِّدِّيقُ فَيَخْرُجُ مِنَ الضِّيقِ. 14‚الْإِنْسَانُ يَشْبَعُ خَيْراً مِنْ ثَمَرِ فَمِهِ، وَمُكَافَأَةُ يَدَيِ الْإِنْسَانِ تُرَدُّ لَهُ. 15‚طَرِيقُ الْجَاهِلِ مُسْتَقِيمٌ فِي عَيْنَيْهِ، أَمَّا سَامِعُ الْمَشُورَةِ فَهُوَ حَكِيمٌ. 16‚غَضَبُ الْجَاهِلِ يُعْرَفُ فِي يَوْمِهِ، أَمَّا سَاتِرُ الْهَوَانِ فَهُوَ ذَكِيٌّ. 17‚مَنْ يَتَفَوَّهُ بِالْحَقِّ يُظْهِرُ الْعَدْلَ، وَالشَّاهِدُ الْكَاذِبُ يُظْهِرُ غِشّاً«.

نطالب القارئ الكريم أن يقرأ كتابات سليمان الموحى بها، فليقرأ في الكتاب المقدس بعض مزاميره في سفر المزامير، وحكمته في سفري الأمثال والجامعة - مع قصيدته الغزلية، التي ترمز لمحبة الله لشعبه في سفر نشيد الأنشاد.

-------------------------------------------------------------

سنوات سليمان الأخيرة
==============

كان سليمان حكيماً غاية الحكمة حتى أنه كتب سفر الأمثال من التوراة. وفي الأصحاح الأخير من ذلك السفر يصف المرأة الفاضلة فيقول: »اِمْرَأَةٌ فَاضِلَةٌ مَنْ يَجِدُهَا؟ لِأَنَّ ثَمَنَهَا يَفُوقُ اللَّآلِئَ. بِهَا يَثِقُ قَلْبُ زَوْجِهَا فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى غَنِيمَةٍ. تَصْنَعُ لَهُ خَيْراً لَا شَرّاً كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِهَا... تَبْسُطُ كَفَّيْهَا لِلْفَقِيرِ وَتَمُدُّ يَدَيْهَا إِلَى الْمِسْكِينِ... تَفْتَحُ فَمَهَا بِالْحِكْمَةِ، وَفِي لِسَانِهَا سُنَّةُ الْمَعْرُوفِ... اَلْحُسْنُ غِشٌّ وَالْجَمَالُ بَاطِلٌ، أَمَّا الْمَرْأَةُ الْمُتَّقِيَةُ الرَّبَّ فَهِيَ تُمْدَحُ« (أمثال 31:10-30).

قد نظن أن الذي يكتب مثل هذه الأقوال الرائعة لا يرتكب خطاً عندما يتزوج. على أن الذي يحدث دوماً في عالمنا أن الأشخاص الذين يمتلكون الثروة والسلطة ينسون الله ويسقطون في الخطأ. ومن المؤسف أن نقول إن هذا هو ما جرى لسليمان. صحيح أنه كان إمام الحكماء، ولكنه ارتكب شيئاً أحمق. لقد كان يعلم أن الله أعطى آدم زوجة واحدة، وأن الله يعلّم البشر جميعاً أن أفضل شيء هو أن يرتبط الإنسان بزوجة واحدة مخلصة. فلو كان الزواج بأكثر من واحدة أصلح، لصنع الله في حكمته أكثر من حواء واحدة لأبينا آدم. كما أن الله في حكمته ومحبته منع شعبه من أن يتزاوج من غير مؤمنات لئلا يقودوهم إلى عبادة الأوثان.

غير أن التوراة المقدسة تقول لنا إن سليمان في سنواته الأخيرة بدأ بتعدد الزوجات، وأحب نساء غريبات كثيرات مع بنت فرعون، فكان له سبع مئة زوجة وثلاث مئة سُرّية، وتقول التوراة إن هؤلاء النسوة أملن قلب سليمان إ لى الآلهة الغريبة، حتى بنى أماكن لعبادة الأوثان إرضاءً لهن. وهكذا وقع سليمان في الخطأ، وارتكب ما لا يرضي الله، وما أغضبه عليه، فقال له: »مِنْ أَجْلِ أَنَّ ذلِكَ عِنْدَكَ، وَلَمْ تَحْفَظْ عَهْدِي وَفَرَائِضِيَ الَّتِي أَوْصَيْتُكَ بِهَا، فَإِنِّي أُمَزِّقُ الْمَمْلَكَةَ عَنْكَ تَمْزِيقاً وَأُعْطِيهَا لِعَبْدِكَ. إِلَّا إِنِّي لَا أَفْعَلُ ذلِكَ فِي أَيَّامِكَ، مِنْ أَجْلِ دَاوُدَ أَبِيكَ، بَلْ مِنْ يَدِ ابْنِكَ أُمَّزِقُهَا. عَلَى أَنِّي لَا أُمَزِّقُ مِنْكَ الْمَمْلَكَةَ كُلَّهَا، بَلْ أُعْطِي سِبْطاً وَاحِداً لاِبْنِكَ، لِأَجْلِ دَاوُدَ عَبْدِي، وَلِأَجْلِ أُورُشَلِيمَ الَّتِي اخْتَرْتُهَا« (1ملوك 11:11-13).

ونحن اليوم قد لا نشترك مع سليمان في خطئه نتيجة زواجه بألف امرأة، لكن الذي نرتكبه أننا نقع في حب أشياء تبعدنا عن محبة الله. الذين يقعون في حب المال يجدون أنفسهم ينزلون عن مبادئهم ويعبدون الثروة ويبتعدون عن عبادة الله. والذين يحبون الأصدقاء يضحون بمبادئهم ليُرضوا أصدقاءهم، فإن كلمة تقدير من صديق تحتل في نفوسهم مكان آيات كتابية كان يجب أن تحكم تصرفاتهم وتقود سلوكهم اليومي. ما أكثر الأشياء التي يمكن أن تأخذ مكان الله في حياتنا، ولذلك يأمرنا الله أن نطلب أولاً ملكوت الله وبره وهذه كلها تُزاد لنا.

وهناك خطأ آخر وقع فيه إمام الحكماء سليمان، وهو عيشة البذخ والإسراف. ولكي يحقق كل رغباته كان لا بد أن يسخِّر الكثيرين من شعبه ليقيموا القصور لزوجاته، حتى إن رجال سليمان بعد موته جاءوا إلى ابنه رحبعام وقالو له: »إِنَّ أَبَاكَ قَسَّى نِيرَنَا وَأَمَّا أَنْتَ فَخَفِّفِ الْآنَ مِنْ عُبُودِيَّةِ أَبِيكَ الْقَاسِيَةِ وَمِنْ نِيرِهِ الثَّقِيلِ الَّذِي جَعَلَهُ عَلَيْنَا فَنَخْدِمَكَ«« (1ملوك 12:4). نعم، كان نير سليمان على شعبه قاسياً غاية القسوة، حتى أنهم أرادوا أن يتخففوا منه، وكان رحبعام مثل أبيه سليمان، فقال للشعب: »أَبِي ثَقَّلَ نِيرَكُمْ وَأَنَا أَزِيدُ عَلَى نِيرِكُمْ. أَبِي أَدَّبَكُمْ بِالسِّيَاطِ وَأَنَا أُؤَدِّبُكُمْ بِالْعَقَارِبِ« (1ملوك 12:14). ولا يخفى أن الشعب عندما سمعوا هذا الكلام لم يريدوا أن يملك رحبعام بن سليمان عليهم، فانقسمت المملكة. قبل سبطان فقط من الأسباط الإثني عشر أن يملّكوا رحبعام عليهم، أما الباقون وهم (عشرة أسباط) فطلبوا من شخص آخر اسمه يربعام أن يملك عليهم. وهكذا جلبت خطايا سليمان غضب الله عليه هو، وعلى نسله.

عندما أخطأ نبي الله داود تاب إلى الله بدموع، وسأل الغفران، فغفر الله له. لكننا لا نقرأ في التوراة المقدسة أي تسجيل بأن سليمان قد تاب، أو أن الله قد غفر له نتيجة اعترافه بخطاياه.على أن الله كان أميناً لمواعيده لداود، في أن مملكته تستمر إلى الأبد.

واليوم نعلم أن السيد المسيح هو ابن داود عن طريق أمه العذراء القديسة مريم، ولا زال المسيح حياً يملك السماء والأرض في مملكة روحية لا تنتهي أبداً، لأنه الملك الأبدي الذي فيه تحققت مواعيد الله لداود، ولذلك قال السيد المسيح: »دُفِعَ إِلَيَّ كُلُّ سُلْطَانٍ فِي السَّمَاءِ وَعَلَى الْأَرْضِ« (متى 28:18).

لقد مات الملك سليمان بعد أن ترك خزانة خاوية، وشعباً متألماً لكثرة الظلم والاستعباد، ومملكة منقسمة! على أن الملك سليمان الذي حكم أربعين سنة كان زمن حكمه العصر الذهبي في التاريخ العبري، وهذا يعلِّمنا أن الإنسان الحكيم لا يستمر حكيماً إلى الأبد، ما لم يحافظ على حكمته ويسلك بمقتضاها. فالإنسان الحكيم حقاً هو الذي يحافظ على صلته بالله كل يوم، عاملاً بنصيحة رسول المسيحية بولس: »إِذاً مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ قَائِمٌ فَلْيَنْظُرْ أَنْ لَا يَسْقُطَ« (1كورنثوس 10:12).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

أحدث الموضوعات

From Coptic Books

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة من 10/2010