لقاء المولود أعمى

(يوحنا9: 1-41)
مِن أروع مُميِّزات إنجيل يوحنا تلك اللقاءات التي كانت لبعض الأفراد مع المسيح، وقد سجَّلها يوحنا بأسلوب مُثير حتى أنَّ مَن يطالعها يشعر وكأنه هو الذي يلتقي بالمسيح مُباشرة. وكنَّا قد تابعنا أربعة منها، وعرفنا أنها تمثِّل صوراً للنفس البشرية: (ص3) اللقاء مع نيقوديموس، صورة للنفس البشرية الغارقة في الطقوس والمُمارسات وحاجتها الشديدة للولادة الثانية.
(ص4) اللقاء مع السامرية، صورة للنفس البشرية الهاربة المُتهرِّبة المُهمَّشة المُتعطِّشة، وحاجتها الشديدة لماء الحياة. (ص5) اللقاء مع مريض الإرادة، صورة للنفس البشرية المُستعبَدة العاجِزة، وحاجتها الشديدة للتحرير وتحريك الإرادة. (ص8) اللقاء مع المرأة المُذنبة، صورة للنفس البشرية الغارقة في الآثام، وحاجتها الشديدة للغفران والسلام. واليوم نتابع لقاءاً خامساً للمسيح مع المولود أعمى، صورة للنفس البشرية العمياء منذ ولادتها.

مرض العمى :
يرمز العمى الجسدي في الكتاب المقدس إلى العمى الروحي لأنَّ الخاطئ أعمى لا يرى حالته الشريرة، ولا يرى محبة الله المُخلِّصة، ولا يرى كفَّارة المسيح الغافِرة. كما يرمز العمى إلى الجهل. فكان الأنبياء قديماً يصفون حالة الشعب الضال بالعمى، والخلاص بأنَّه فتْح للعيون العمياء (إشعياء 18:29/ 5:35/10،9:59). الأمر الذي تحقَّق بمجيء المسيح الذي قال عن نفسه "أنا هو نور العالم، من يتبعني فلا يمشي في الظُّلمة بل يكون له نور الحياة" (يوحنا12:8).
وقد انفرد يوحنا بتسجيل هذه المعجزة، لأنه عندما كتب إنجيله كان الكثير من تعاليم ومُعجزات المسيح قد عُرِفت وانتشرت، فحرِص على ذِكْر ما لم يذكره الكتَّاب الآخرون عن معجزات وأقوال ولقاءات يسوع. وعندما كان يكرِّر معجزة كان يُضيف إليها التعاليم التي صاحبتها مع تعليقه عليها. ولهذه المعجزة خلفية مُدهِشة، فهي شرح لما قاله يسوع إنَّه هو نور العالم. ويبيِّن العدد الأخير من الأصحاح السابق أنَّ أعداءه رفعوا حجارة ليرجموه، لكنه مضى في وسطهم. فكانت الحجارة هي آخِر حوار لأعدائه معه، لكنه كان مُتمالكاً لنفسه حتى أنه لاحظ ذلك الأعمى وتوقَّف عمداً ليشفيه. فعلى الرغم من كراهيتهم القاتلة ليسوع، إلا أنَّه كان يعمل حتى الساعة الأخيرة "ينبغى أنْ أعمل أعمال الذي أرسلني مادام نهار" (ع4). فلم يستطع الشرير ولا الأشرار إحباط أعماله المقدَّسة.
وقد سبَّبت هذه المعجزة غيظاً لقادة اليهود بسبب عماهم الروحي وعقائدهم المغلوطة عن يوم الرب. لكنها كانت سبب فرح وشفاء لذلك الأعمى الذي يمثِّلنا جميعاً. وفي هذا اللقاء سوف نرى: أزمة، سؤال، جواب، شفاء، انشقاق. فالأزمة أدت إلى طرح السؤال، والسؤال استوجب الجواب، والجواب استتبع الشفاء، والشفاء أدى على الانشقاق..
(1) الأزمة :
لا يستطيع أنْ يصف حالة الأعمى إلا أعمى، إنها ظلام دائم وظلام قاتم وحرمان تام من النور والجمال. ونحن هنا أمام محنة أليمة تبعث على اليأس، أعمى مُنذ ولادته، اضطرَّ أنْ يجلس عند الهيكل ليستعطي. إنه يمثِّلنا جميعاً، إنَّنا عُميان روحياً منذ ولادتنا، وكلُّنا كغنم ضلَلنا، مِلنا كلُّ واحد إلى طريقه. وقد أعمى إلهُ هذا الدهر أذهان غير المؤمنين لئلا تُضيء لهم إنارةُ إنجيل المسيح (2كورنثوس4،3:4).
لم تقتصر حالة ذلك الأعمى على عماه، بل زادتها قسوة تعليقات الجيران. إذْ اعتبروا أنَّ عماه إما أنه نتيجة خطية ارتكبها، وإما بسبب خطايا والديه. فكانوا يناقشون قضيته فلسفياً دون اهتمام أو اكتراث به هو شخصياً. هذا ما يعمله علماء الاجتماع والنفس، وأيضاً مَن يحبّون أنْ يصرفوا وقتهم فقط في الكلام وحُبّ الاستطلاع، لكنهم لا يكترثون لما هو أهمّ... مسكين هذا الرجل، فالناس دائماً يرجمون غيرهم بالأحجار ليُعاقبوا أنفسهم في غيرهم، ويُسقِطوا عيوبهم على الآخرين.
(2) السؤال :
هذه الحالة أثارت تساؤل التلاميذ: مَن أخطأ، هذا أمْ أبواه؟! إنهم يربطون الخطية بالألم، فأيُّ سبب مِن الاثنين قد تسبَّب في أزمة هذا الرجل؟ كان هناك اعتقاد عند بعض اليهود مُفاده أنَّ هناك وجود سابق للإنسان قبل مجيئه إلى هذا العالم، وهو نوع من انتقال الأرواح، فكأنَّ سؤالهم: هل أخطأ هذا الرجل في وجوده السابق حتى وُلِدَ في هذا العالم أعمى؟ وكان هناك اعتقاد آخَر شائع أنَّ مزايا الوالدين تظهر في أبنائهم، والوصية الثانية من الوصايا العشر تشير إلى افتقاد الله ذنوب الآباء في الأبناء. ومِن هذَيْن المُنطلقَيْن جاءت أسئلة التلاميذ للمسيح. ومازالت هي أسئلتنا نحن أيضاً عن الألم في حياة الإنسان، هل هو نتيجة خطيته؟
(3) الإجابة :
نأتي هنا إلى موقف المسيح. فبينما رأى التلاميذ في ذلك الأعمى موضوعاً للمناقشة، رأى المسيح فيه فُرصة لإعلان محبة الله للبشر، رأى إنساناً يحتاج إلى النور فتقدَّم إلى شفائه مباشرة، دون أن يغفل سؤال التلاميذ. لقد رفع عنه الاتهام الظالم بأنه أخطأ أو أبواه "لا هذا أخطأ ولا أبواه، لكن لتظهر أعمال الله فيه" (ع3)، فردّ له كرامته وأسكَت أفواه المُنتقِدين الذين يقولون ما لا يعلمون، وينسبون آلام الناس لخطاياهم وهم يجهلون ظروفهم. لكن هذا لا يعني أنه قال إنهم بلا خطايا، بل إنَّ العمى هنا لم يكُن بسبب الخطية.
إنَّ هناك أمراض تسببها الخطية، كما في حالة المشلول الذي أنزلاه أصحابه الأربعة مِن السقف وقال له المسيح "مغفورة لك خطاياك" (مرقس5:2). وهناك أمراض ليست بسبب الخطية، كما في حالة أيوب البار الذي كان يتَّقي الله ويحيد عن الشرّ (أيوب8:1). وهناك أمراض بسبب البيئة. وهناك أمراض يسمح الله بها ليُظْهِر أعماله فيها، حتى وإنْ بدا ذلك غامضاً لنا، كما في حالة ذلك الأعمى. إذاً فليس كلّ ألمٍ في العالم هو نتيجةٌ للخطية. قد لا نستطيع أنْ نفهم سبب آلامنا ودموعنا، لكننا سوف نفهم فيما بعد، ونعرف الأسباب الحكيمة الصالحة التي تجعل الله يسمح لنا بها.
(4) الشفاء :
إنَّنا نتعجَّب مِن أنَّ يسوع أقبَل على شفاء ذلك الأعمى بدون طلب، منه أو مِن أهله. فلابُد أنه كان مُندهِشاً جداً عندما اقترب إليه يسوع وبدأ عملية شفائه. كما نتعجَّب مِن الطريقة التي نال بها الشفاء، حيث تفَلَ يسوع على الأرض وصنع طيناً طلا به عينيّ ذلك الأعمى ودعاه ليذهب إلى بِركة سلوام ليغتسِل هناك حتى يُبصِر!! وأطباء ذلك العصر كانوا يستخدمون هذه الوسيلة في حالات العمى الذي يحدث بعد الميلاد، أما العمى الخُلُقي فكان يُنظَر إليه باعتباره غير قابل للشفاء، فلم يُسْمَع عن أي حالة شفاء مِن هذا القبيل. كما كان للُعاب قديماً منافِعه الفريدة في أمراض العيون وفي السِّحْر أيضاً. وقد قيل إنَّه باستخدام لعاب الشخص قبل الطعام كلّ صباح يمكنه الوقاية من التهابات العيون. أما طلاء العيون بالطين فهو أمر غريب جداً!! من شأنه أنْ يجعل البصير أعمى. أما ما عمله يسوع فقد قال فيه البعض إنَّ الطين رمز للخليقة، لأنَّ الإنسان تكوَّن مِن تراب الأرض، فالمعنى أنَّ يسوع يمارس قوة الخلْق التي جبَل بها الإنسان. وقال آخرون إنَّ المسيح أراد أنْ ينعِش لدى ذلك الأعمى الأمل وقوة الإيمان الكامنة فيه. وكان الاغتسال ضرورياً لإزالة الطين من عينيه، ولإظهار طاعته الإيمانية.
(5) الانقسام :
انقسم الفريسيون إلى مُعسكَرَيْن بسبب هذه المُعجزة: بعضهم قالوا لا يمكن أنْ يقوم بهذا العمل الفريد إنسان ليس مِن الله. والبعض الآخر قالوا إنَّ يسوع لا يمكن أنْ يكون من الله لأنه كسر السبت. وهؤلاء صورة لمَن يتمسَّكون بالنُظُم الجامدة ويتعصَّبون تعصُّباً أعمى. إنهم أناس مُنغلقو الفِكر يرفضون كلّ ما يختلف عن معتقداتهم حتى لو رأوا بعيونهم ما يخالفها. لقد فحصوا الأعمى بعد استرداده البَصَر، لكنهم أصرُّوا بكلِّ عناد أنْ يرفضوا ويعارضوا.
وعلى الرغم من أنَّ والداه تخلّوا عنه والمجمع طرده، إلا أنه اختبر اختباراً عميقاً جعله يشهد شهادة شجاعة عظيمة للمسيح أمام جيرانه وأمام الفريسيين أعداء المسيح (ع30،28،27،25). إنه صورة للنفس البشرية في عماها وجهلها الروحي، لكن أمام نور المسيح تنفتح العيون وتُبصِر ما لا يبصره المُبصِرون. لقد أعمت الخطية عيوننا وجعلتنا نستجدي من العالم مالا يكفينا، فنعود ونستعطي من جديد. فهل لنا أنْ نردِّد هذه الشهادة "كنتُ أعمى والآن أُبصِر"؟
ففي نور المسيح ندرك حالتنا الهالكة، حالة العمى والجهل، وندرك حاجتنا الشديدة للخلاص. وكما كان بولس يصلي من أجل أهل أفسس نصلي أيضاً لأجل بعضنا البعض "مُستنيرة عيون أذهانكم لتعلموا ما هو رجاء دعوته، وما هو غنى مجد ميراثه في القديسين" (أفسس18:1)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

أحدث الموضوعات

From Coptic Books

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة من 10/2010